Site icon الإشتراكي نت

نصف اليمن كويتية (اعتراف واعتذار)!

صلاح الأصبحي

ككاتب يمني شاب – قرأ تاريخ بلاده بتمعن ووعي، وبالذات علاقة اليمن بأشقائه العرب، ودور الأشقاء في دعمه على أكثر من صعيد سياسي اقتصادي تنموي – تفردت دولة الكويت بعلاقتها الحقيقية ودورها التاريخي ومصداقية الروابط والجذور والهموم، على مدى عقود، لم تنازعها دولة أحبت اليمن مثلها، ولم يرتق نظام بنى اليمن طوبة طوبة كالنظام الكويت الشقيق، الذي تبنى احتياجات اليمن ومشاريع تنميتها وكأنها جزء من مهامه وهدف من أهداف دولته لدرجة باعثة للحيرة والدهشة عن إمكانية وجود علاقة فعلية مثالية سخية بين شعبين شقيقين كعلاقة الكويت باليمن.

لم استوعب حجم السخاء ومقدار العطاء وصورة الإخاء وعظمة البقاء التي تظلل هذه العلاقة المتينة، وتحيط بالضوء الذي جسدته الكويت في الجغرافيا اليمنية القاحلة شمالاً وجنوباً، وسعيها الحثيث لترسيخ أركان ومؤسسات وبنية تحتية في الشطرين بما يكفل كسب المجتمع لتلك المشاريع العظيمة وتخفيف معاناته والتخلص من افتقاره لمشاريع ملحة تخرجه من غياهب اللادولة وتضعه في صلب التنمية واللحاق بركب الحياة المتحضرة، والخدمات الأساسية التي تمس حاضره ومستقبله.

ثمة علامة فارقة تثير الدهشة حول عمق العلاقة تلك، فإلقاء نظرة فاحصة على طبيعة تلك الهبات ستجد أنها لم تكن آنية أو أن أهدافها لحظية، لكنها في الحقيقة كانت غايتها مستقبلية، هدفها الإسهام في إكساب المجتمع قوة تنموية متمثلة ببناء جيل مؤهل قادر على النهوض بالمجتمع؛ لأن معضلة الأمية التعليمية والتأهيل الجامعي كانا أكبر خطر يبقي اليمن عاجزاً عن تحقيق طموحاته، ولذا كان اهتمام شقيقتنا المبجلة بقطاعي التربية والتعليم والتعليم العالي اهتماماً مشهوداً وفاعلاً.

فبعد ثورة 1962 كانت المدارس منعدمة والتربويون اليمنيون لم يوجدوا بعد، فتولت الكويت على عاتقها بناء الكثير من المدارس في محافظات عدة، واستجلاب تربويين عرب، والتكفل بدفع رواتبهم لعدة سنوات، حتى انزاحت الأمية وشعشع نور العلم في المدن والأرياف، وليس هذا فحسب؛ بل أتبعته باحتواء مؤسسات التعليم العالي: على رأسها جامعة صنعاء التي كان للكويت فضل كبير في إرساء دعائمها وتوسيع قطاعاتها، كبناء كلية الطب، وانجاز كثير من مرافقها من قاعات دراسية ومبان إدارية ومكتبات، وتأثيثها وتجهيزها بأرقى الطرق والوسائل المتاحة حينها، ثم حفزت الطلاب اليمنيين الملتحقين بالجامعة وتكفلت بمخصصات مالية شهرية لكل طالب، كما تكفلت برواتب الأكاديميين العرب المحاضرين والزائرين والمعارين في جامعة صنعاء حتى غدت الجامعة شعلة تنويرية، وقيمة معرفية يشار لها بالبنان، أخرجت الخبرات والكوادر اليمنية في مختلف المجالات، وكانت تمثل اللبنة الأولى في صنع مستقبل اليمن في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، فياله من دعم استثنائي ذلك الذي يغير بنية المجتمع وينقل أبنائه من دور العبء إلى دور يصنع التحول والتحديث.

إلى جانب ما سبق يمكنني استعراض بعض المشاريع الحيوية التي حققتها الكويت لليمن من باب التمثيل وليس من باب الحصر؛ لأنها لا تحصر: مستشفى الكويت، المستشفى العسكري بصنعاء، مستشفى الحديدة العام، ثمانية عشر مستوصفاً في عدة محافظات، المعهد الصحي، بنك الدم، المختبر المركزي، كلية الشرطة، مبنى الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد، المعهد الصناعي، المكتبة المركزية لجامعة صنعاء، دار الكتب، المكتبة الوطنية بعدن، ميناء عدن، مشروع وادي زبيد، شق طرق، بناء جسور، ترميم أماكن أثرية كباب اليمن في صنعاء، أمجاد لا تقدر بثمن، ومعالم لا تخطئها العين، وبنية تحتية شكلت القفزة النوعية لليمن والاستقرار المعيشي الخدمي والنهوض الاقتصادي، عبر استغلال الطاقات والقدرات والإمكانيات التي صنعت نهضة تنموية شاملة بفضل سخاء الشقيقة وعطاءها الباذخ.

وعلى ضوء ما سبق يمكن الاعتراف بحقيقة مفادها: أنه لم تحظ اليمن بدعم إقليمي أو دولي كما حظيت به من دولة الكويت الشقيقة، منذ قيام النظام الجمهوري في 1962م، لدرجة يصعب معها حصر مشاريع التنمية والبناء التي شيدتها الكويت في اليمن، وكأنها هي الدولة، وهي المسؤول الأول عن العمران والبنية التحتية اليمنية أكثر من النظام الحاكم.

وليست مبالغة القول إن نصف اليمن كويتية وإنما هي الحقيقة المطلقة التي ما زالت ماثلة أمامنا حتى اللحظة، وما يثير الغرابة الاستفسار حول شكل اليمن بدون تلك المعالم والمؤسسات التي قدمتها كويت الخير لشقيقتها اليمن بسخاء منقطع النظير وإخلاص متفان في النهوض باليمن أرضاً وإنساناً. والمفارقة المرة أن اليمن اقترف ذنباً فادحاً وجسيماً بحق الكويت، ذنباً لا يقبله لا عقل ولا منطق ولا عرف ولا شرع خلال الاعتداء العراقي الغاشم فيما عرف بحرب الخليج الثانية، مع أن المنطق حينها يفرض علينا حتماً الوقوف إلى جانب الكويت ورفض واستهجان العدوان عليه تحت أي مبرر، لكن حماقة السياسة وسذاجة الوعي وغباء التقدير ورط اليمن بموقف سخيف وجبان لا يليق بفضل وعطاء وود الكويت.

سيظل اليمنيون يحتقرون تلك اللحظة المخزية التي جرحت شرف الكويت ومكانته الزاهية في صميم اليمنيين، إذ يدينون باعتذار شعبي والتماس العفو والغفران من الكويت حكومة وشعباً إزاء ذلك الموقف الصادم والخذلان غير المتوقع، وسيبقى اليمن يشعر بالخجل والتأنيب أمام الكويت لعقود.

وحين غرق اليمن في مستنقع الحرب وإنقلاب المليشيات على السلطة الشرعية في سبتمبر 2014، لم يقف الكويت موقف المتفرج المتشفى، وإنما أعلنت انضمامه ومساندته للسلطة المنتخبة ضد سيطرة المليشيات، حيث كان دور الكويت التاريخي منذ مطلع السبعينيات يسعى جاهداً في تغيير التركيبة المجتمعية اليمنية المعقدة دينياً واجتماعياً عن طريق التعليم والثقافة ومشاريع اقتصادية تهدف لترك المجتمع ثقافة القبيلة والمذهب والالتحاق بركب التمدن والتحضر والديمقراطية، وكان هذا الطموح المضمر يُصد ويرفض من خلال سعي أشقاء أشقياء ودعمهم لتحالفات قبلية وتوجهات دينية سلفية متشددة أعاقت بناء الدولة وبناء مجتمع مدني ديمقراطي يتغلب على كل موجات التبعية العمياء والتعصب القبلي وقوى التخلف والرجعية .

الجدير بالذكر في هذا السياق أن الكويت استأنف موقف العطاء والإخاء، ولم يطاوعه ضميره ونبله أن يترك اليمن في محنته، بل سارع مخلصاً عظيماً شهماً ومقداماً في التكفل بعدة مشاريع واحتياجات إنسانية عاجلة في المحافظات المتضررة من الحرب، كتعز وغيرها، والإسراع كعادته النبيلة في ترميم وإصلاح المدارس والكليات في مدينة تعز بعد أن دمرتها الحرب وأخرجتها عن الخدمة. أثبتت الكويت أنها كبيرة ومتجاوزة للجراح والمواقف للحد الذي لم نتخيل فيه فرادة وتميز ونبل العلاقة الأخوية بيننا، والتي ما بخلت علينا يوماً بشيء، وأغدقت علينا ما نعجز عن مجازتها بالشكر والامتنان.

أختم بوحي الشفيف وأسفي العميق بأن للكويت مكانة خاصة في نفسي، وعشقها متجذر في أعماق روحي، وأمنيتي أن أحظى بزيارتها، وتقبيل رأس وجبين أميرها وولي عهدها وكل من مد يد العون والمساندة لوطني الجريح من أصحاب القرار والمسؤولين فيها كأقل تقدير يتحتم عليِّ القيام به كمواطن يمني أولاً، وككاتب تفرض عليه ثقافته ووعيه وإنسانيته رد النزر اليسير والامتنان لدولة شقيقة أخلصت لأجل بلده، وقدمت ما عجز عن تقديمه الأشقاء والأصدقاء في الماضي وفي الحاضر.

Exit mobile version