الثوري – في الذاكرة – (الشهيد جارالله عمر)
وطن أو لا وطن
وثيقة حساسة وناقدة حول الأزمة والحرب
الأخ/ الأمين العام، نائب رئيس مجلس الرئاسة.. المحترم
الأخ/ الأمين العام المساعد، عضو مجلس الرئاسة.. المحترم
الأخ/ رئيس هيئة سكرتارية اللجنة المركزية.. المحترم
الأخوة/ أعضاء المكتب السياسي.. المحترمون
لقد رأيت منذ عودتنا من عمّان بعد التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق يوم 20 فبراير1994، أن الأزمة التي تعيش فيها بلادنا تحتم علينا القيام بتبادل واسع لوجهات النظر؛ إما من خلال مناقشة واسعة ومستفيضة وهو أمر غير متاح في الظروف الحالية أو عبر التقدم بوجهات نظر مكتوبة.
لا لأن الحزب الاشتراكي اليمني أحد الأطراف الأساسية المؤثرة في عملية الصراع الراهن في الساحة اليمنية فحسب، بل ولأن ما ستؤدي اليه الأزمة من نتائج سوف تؤثر حتماً على مصير الوطن ومستقبله ربما لعدة عقود.. وليس من المبالغة القول بأن مصير وحياة الاجيال اليمنية التي ستلي هذا الجيل، ستكون رهناً بالقرارات التي نستطيع أو لا نستطيع اتخاذها في هذه الأيام غير العادية، إن لم نقل أن مستقبل الاشياء والناس والافكار والمثل في اليمن بما في ذلك مُثُل الحرية والديمقراطية وتعددية الأحزاب بل وبقاء الوطن ذاته رهناً بما سنفعله في غضون الأشهر القليلة القادمة.
ولذلك فان الحزب الاشتراكي اليمني اذا أصاب فسوف يكون منقِذاً، وإن هو أخطأ هذه المرة فلن يكون ذلك من قبيل الأخطاء العادية المألوفة القابلة للتصحيح من خلال وقفة نقدية، بل هو في مستوى الأخطاء التاريخية الكبرى التي لا يمكن اصلاحها.. واذا تعرض مصير الوطن للخطر فان مسؤوليتنا التاريخية ستكون جسيمة.. ومن المشكوك فيه ان نظل حزباً على قيد الحياة وأصارحكم القول أيها الاخوة بأنني قضيت وقتاً غير يسير للتفكير حيال القيام بهذا النوع من كتابة الرسائل ذات الطابع النظري نوعاً ما، في وقت تتفاقم فيه الأزمة وتتجه خلاله كافة العقول والأسماع الى متابعة حقائق الوضع اليومي التي تتغير لحظة بلحظة وترغم صُنّاع القرار السياسي في ان يصبوا همهم الأول في ملاحقة المعلومات والمواقف الجديدة والتعاطي معها وتوقع ما سيحدث والاستعداد لمواجهته .
ويكمن السبب الأهم لترددي عن كتابة هذه الرسالة في الخشية من أنها قد تؤدي الى عكس الهدف الذي توخيته منها وان تثير قدراً من الحساسية والفرقة في وقت عصيب نحتاج فيه الى التماسك والوحدة، لكي لا يؤدي ذلك الى اضعاف موقفنا التفاوضي واغراء الطرف الآخر في المزيد من التصلب السياسي، بل واستسهال الإقدام على مغامرة عسكرية تحت طائلة الوهم بافتقار الحزب الى وحدة الموقف..
سيما مع كل ما يسود الجو الحالي من شائعات وتسريبات صحفية، هي عبارة عن حرب نفسية حقيقية تهدف الى النيل من معنويات اعضاء الحزب وأنصاره بيد أنني وقد حاولت أن أزن السلب والايجاب في هذا الأمر رجحت خيار التقدم اليكم بهذه الرسالة تحت الحاح الرغبة في الاسهام في تصويب رؤيتنا السياسية لتتوائم والنقلة النوعية التي شهدتها الأزمة السياسية بعد التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق ولقاءات عمان، الأمر الذي يفرض علينا بالضرورة الاصغاء المتعمق لكل الآراء والاجتهادات والتحلي بالصبر والأناة تجاه الرأي الآخر خصوصاً وان الأزمة الحالية غير مألوفة في تاريخنا، ثم إنها على درجة كبيرة من التعقيد والشمولية وقد خلقت ظروفاً بالغة القسوة وتسببت في العديد من المخاوف العامة والخاصة ودفعت كل شخص تقريباً من السياسي الى ربة البيت الى التفكير بآثارها عليه وعلى ابنائه الآن وفي المستقبل.. وليس من المستغرب ان تخالج المرء العديد من الخواطر والأوهام والآراء المختلفة، ومن الضروري لقيادة الحزب ان تكون على دراية بذلك .
واعتقد ان تجنب مناقشة موضوعات الخلاف إن وجدت هي أكثر خطورة على وحدة الحزب من تبادل النقد والمصارحة الرفاقية.. لأن الحزب الاشتراكي اليمني يمتلك مخزوناً من خبرات وتجارب الاختلاف والتباين وما كان يتلو ذلك من وقفات نقدية كانت تؤدي بهذا القدر أو ذاك الى استعادة عافيته الفكرية والتنظيمية وامتلاك حصيلة مناسبة من الدروس التي تساعد على تجنب تكرار اخطاء الأمس، فصار الحزب على قدر من التحصن والنضج السياسي وامتلك حداً لا بأس به من التطور الديمقراطي والمؤسسي في حياته الداخلية يسمح بالاختلاف والتباين لاستنباط الوسائل واقتراح السبل التي تخدم الوصول الى الهدف بأقل قدر من الخسائر.
وطالما أننا في الحزب الاشتراكي اليمني قد أفلحنا الى حد كبير في تجاوز المرض الشرقي المزمن الذي كان يحدو ببعض ذوي الرأي المختلف الى تصنيف مخالفيهم ووضعهم في خانات الحد الأقصى التي توجب الاتهام والادانة، فان الحاجة تدعو الى تبادل وجهات النظر بدون توجس ليس من قبيل الترف النظري بل:
( أ ) من قبيل ممارسة النقد قبل ارتكاب الأخطاء لمنع وقوعها، لا بعد ان تقع، وخلق الأرضية المناسبة التي تساعد على تقويم وتصويب أدائنا السياسي واتخاذ القرارات التي تحول دون نجاح الطرف الآخر في جرنا الى المجابهة النهائية بالوسائل والشروط وعلى الساحة التي يختارها فالخط السياسي الأصوب هو الذي يفرض نفسه على مجرى الصراع وأطرافه.
(ب) لأننا نشكل جماعة سياسية في اتحاد طوعي لمئات الآلاف من الاعضاء الذين توحدوا حول فكرة معينة يترجمها برنامجنا السياسي الذي يُعْد العقد الاجتماعي بين أناس أتوا من منابع ومشارب مختلفة ومن المسلم به أن الانتماء الوطني ووحدة الأرض والانسان في اليمن على أساس من الديمقراطية والعدل والتساوي في حقوق وواجبات المواطنة ليست محل اختلاف بين صفوف الحزب الاشتراكي اليمني، غير أن من البديهي ان تنشأ تباينات في وجهات النظر حيال شروط وسبل تحقيق هذه المهمات الوطنية الكبرى ولابد من استقصائها.
(ج) بهدف تعزيز قناعات الأعضاء بالمبادئ والافكار والتطلعات التي توحدوا على أساسها.. ونفي ما يكون قد علق في الأذهان من تساؤلات ذاتية من جراء النشاطات السياسية والاعلامية الأخرى وخلق أعلى قدر من اليقين تجاه العقد الاجتماعي الذي تأسست على أساسه جماعتهم.
( د ) تدلنا خبرات الماضي ان أي تجاهل لأي قدر من التباين في وجهات النظر إبان الأزمات ذات الطابع المصيري خشية الاختلاف، يفقد أي حزب ميزات العقل الجماعي وقد يؤدي الى عواقب خطيرة تؤدي الى الهزيمة وتقوض وحدته في نهاية المطاف وبديهي ان إدارة أي حزب للمعارك السياسية بنجاح يؤدي دائماً الى تعزيز وحدته ، وأن الفشل يفضي دوماً الى التنازع على المسؤولية ثم التنصل عنها، فالانقسام والتمزق , لهذه الأسباب كلها رأيت أيها الاخوة أن أتقدم بوجهة النظر هذه الى المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني دون أن أجزم قط بأنها تطابق الحقيقة كلياً أو أنها مبرأة من القصور والرؤية الذاتية للأشياء أو الظروف الشخصية المحيطة بي كإنسان.
تطورات الأزمة وما بلغته من أبعاد :
عندما بدأت الأزمة السياسية الراهنة التي يعيشها وطننا تخرج الى العلن، تباينت ردود الفعل حيالها بين الدهشة والاستغراب، والتفهم المحدود.. غير أن قدراً كبيراً من ردود الفعل تلك تميزت بالميل الى اعتبارها مجرد اختلاف عابر حيال المستقبل الدستوري للبلاد، دون ان نستثني من ذلك أغلبية قيادات وقواعد الحزب الاشتراكي اليمني.
بيد أن طرح النقاط الثمانية عشر الشهيرة من قبل قيادة الحزب الاشتراكي اليمني عملت على التأصيل النظري للأزمة وتأطيرها برنامجياً وأبرزت أساسها لموضوعي وخلقت اصطفافات واسعة في الأوساط السياسية والشعبية من جراء الاستقطاب الحاد الذي ساد سياسياً وشعبياً من النقاط وضدها.. بعد أن وحدت الموقف القيادي في الحزب كما رصت صفوفه القاعدية حولها.. وما كان لذلك أن يحدث لولا أن المشكلات الاجتماعية والسياسية المزمنة كانت كامنة تحت السطح الذي كان يبدو عليه الهدوء الظاهري وقد تجاوب الناس مع الحزب الاشتراكي اليمني لأن النقاط ال( 18 ) قد أفلحت تماماً في مخاطبة وجدانهم وألمحت الى مصالحهم الحقيقية المفتقدة، كما تضمنت مقترحات للكيفية التي يمكن بواسطتها حل العديد من التناقضات الاجتماعية والسياسية المزمنة التي ظلت تتراكم عقوداً من الزمن وتكبت بالقوة المرة تلو الأخرى.. وجاءت خطابات الأخ على سالم البيض من موقعه كأمين عام للحزب ونائب لرئيس مجلس الرئاسة، التي أصغى لها الناس على نطاق واسع، لتحدث تحولاً جذرياً في وعيهم وتجدد الأمل في التغيير المأمول الذي تأخر عن زمنه، ولتعطِي المعنى الحقيقي لدولة الوحدة.. بقدر ما أظهرت ان تأخر ظهور الأزمة يعود في المقام الأول الى جملة من العوائق الاجتماعية والسياسية الكابحة وخصوصاً انعدام حرية التعبير والافتقار الى الزعامة القائدة للتغيير وقد جاء الرجل الذي رفع الغطاء عن البركان الذي كان يضطرم في إناء مغطى بقشرة خفيفة من الأفراح والمناسبات الشكلية والضجيج الاعلامي المتسم بالديماغوجية وصار الوضع كما قال الشاعر محمد محمود الزبيري:
« إن الأنين الذي كنا نردده سراً غدا صيحة تصغي لها الأمم »
فطفق الناس يجاهرون بالرغبة في تحقيق ما كانوا يأملون فيه على أثر قيام الدولة اليمنية الموحدة في 22 مايو 1990وكانت تلك أول علامات التبدل الملحوظ في المزاج الشعبي وفي موازين القوى على الساحة اليمنية كلها الأمر الذي عكس نفسه ايجابياً على الأداء السياسي لقيادة الحزب الاشتراكي بما عزز من ثقة لديه بنفسها وبخطها السياسي وساعدها على ادارة الأزمة بمهارة وبنفس طويل غير معهود كان من أولى ثمارها دعوة اللجنة المركزية التي تميزت بالجرأة الى توسيع نطاق الحوار والتحرر تماماً من عقدة النتائج التي أفضت اليها انتخابات 27 أبريل 1993 ، وعدم الخشية من استخدام الطرف الآخر لأكثريته البرلمانية لإقصاء الحزب من الائتلاف أو ارغامه على العودة مكتوفاً الى حظيرة الحوار الثلاثي وتقديم التنازلات غير المبررة، مثلما كان الحال عند تقدم الحكومة الى مجلس النواب ببيان الثقة لأن الأمر هذه المرة قد اختلف تماماً فصار نزاعاً على قضايا اليمن وبناء الدولة وليس اختلافاً على اقتسام الغنيمة وتوزيع المناصب الوزارية وقد مثلت عملية الانتقال بالحوار من دهاليز الائتلاف الثلاثي الى الحوار الموسع وما تلى ذلك من علنية في طرح وجهات النظر حول الأزمة وأسبابها، التحول النوعي الثاني في مجرى الأزمة ذاتها وفي وعي الناس لموضوعية الأزمة والعوامل التي أدت اليها على الصعيدين الداخلي والخارجي وفتح الباب أمام نشوء شرعية جديدة موازية هي الشرعية السياسية والشعبية التي تنامى دورها تدريجياً بما يكفي لمنع الطرف الآخر من استخدام البرلمان ولو مؤقتاً لإصدار بيانات الادانة الكيفية وتوجيه أعماله خارج مهماته الرئيسية في الرقابة والتشريع، والحيلولة دون نجاح جملة من التحركات الاعلامية والسياسية كما حدث في (الجند) لإفشال لجنة حوار القوى السياسية واعادة المسألة برمتها الى مقاعد الائتلاف غير المتكافئة وحسمها بصوتين ضد صوت واحد وقد تعزز هذا الموقف الشعبي بسياسة النفس الطويل والصبر الجميل من قبل قيادات الحزب الاشتراكي وعدم الاستجابات العاطفية للاستفزازات المتعمدة أو الصدفية، مثل اعتراض أطقم الشرطة العسكرية عند مدخل صنعاء لموكب الأخ رئيس الوزراء الذي كان لبقائه في صنعاء واستمراره في تسيير أعمال الحكومة في مناخات مفعمة بالريب، أثر إيجابي على الرأي العام الداخلي والخارجي، الذي نظر الى بقاء رئيس الحكومة في العاصمة بوصفه تعبيراً عملياً عن سياسة الحزب الاشتراكي اليمني في الابقاء على أكبر قدر ممكن من الروابط الوحدوية وعدم خلق الاسباب التي تؤدي الى القطيعة وفشل الحوار وقد وفرت هذه التطورات والافعال الشروط الضرورية للانتقال بالحوار السياسي وبالأزمة ذاتها الى المحطة الثالثة الأكثر أهمية وعمقاً، والتي شهدت صياغة وثيقة العهد والاتفاق في ظروف بدت أكثر توازناً وأكثر مواتاه للحوار الموضوعي العقلاني واضطرار المؤتمر والاصلاح للتخلي عن مناوراتهما والكف عن اختزال الأزمة بالخلاف بين الرئيس والنائب أو بين الحزب والمؤتمر والاعتراف بطابعها الوطني العام وأن لها ما يكفي من الاسباب الموضوعية التي ينبغي الاعتراف بها وتشخيصها بصورة واقعية تمهيداً للبحث عن اقتراحات وحلول عملية تخرج البلاد من هذه الأزمة وعدم الابقاء على الاسباب التي من شأنها ان تنتج أزمات أخرى في المستقبل.
ولأن الوثيقة تتحدث عن نفسها فإننا لا ينبغي أن نستطرد في الشرح والتحليل لوثيقة غنية بهما إذ لا معنى لتبيان البيّن بيد أن من الواجب القول أن وثيقة العهد والاتفاق قد تطرقت باستقصاء دقيق الى طرح وتحليل العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي ظل الحديث عنها محرماً بصورة قطعية فضلاً على الاعتراف بها وحلها على مدى مئات السنين ومهما كانت درجة إحاطة وثيقة العهد والاتفاق بالمشكلات والتناقضات التي أعاقت سير حركة المجتمع اليمني الى الأمام، وأياً كان خط المقترحات التي تضمنتها في التنفيذ، فإن مستقبل اليمن ونهضته ستعتمد قبل كل شيء على مدى قدرة القوى والأحزاب والشخصيات المؤثرة في الساحة اليمنية على التفريق بين أسباب وموضوعات التنافس الحزبي العادي التي تقتضي العملية الديمقراطية الاختلاف حولها والاجتهاد في تقديم الحلول والبرامج المتعارضة لحلها وبين القضايا السياسية الذي يتعين الاتفاق حولها وحلها بروح التفاهم والاتفاق الوطني كشرط لابد منه لإخراج اليمن من وضعها المزري الذي شكلت أمثاله أسباباً للسقوط والانهيار، ووضع هذه القضايا في سياقها التاريخي وخارج المناورات السياسية وفوق كل ربح أو خسارة.
ويكمن المدخل الشرعي والوحيد الى ذلك بادراك هذه القوى مجتمعة لحقيقة الأمر والتخلي عن سياسة الكيد ومغالطة النفس والأخذ بحكمة سقراط الشهيرة التي تجمع بين البساطة والعمق في آن واحد ألا وهي (اعرف نفسك)، والدخول مباشرة في تحليل واستقصاء التناقضات العميقة التي اكتنفت حياة المجتمع اليمني طوال تاريخه المعاصر وجعلته في مؤخرة دول الجامعة العربية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً والاتفاق بعد ذلك على حلها بطريقة سلمية وعن طريق التدرج وادراك أنها ما لم تحل سلمياً فقد تعصف باليمن وتدفع به الى صراعات دموية لا تحمد عقباها حتى ولو أفلحنا في تنفيذ الجزء الأكبر من وثيقة العهد والاتفاق وأبرز هذه التناقضات والاشكالات كما أرى يمكن ايجازها في:
المركزية واللامركزية وقد سبق الحديث عنها وأفاضت الوثيقة في اقتراح الحلول اللازمة لحلها..
عدم تحقق اندماج وطني حقيقي وسوق وطنية موحدة، وما يترتب على ذلك من تباينات اجتماعية وسياسية ومعيشية والافتقار الى الانسجام الوطني وضعف روح الانتماء والتكالب على البحث عن متكآت مناطقية أو قبلية أو مذهبية والاستناد اليها وصولاً الى العمل والوظيفة، الى المشروع وغير المشروع. وبرغم أن هذه الحالة التي نعيشها اليوم صفة ملازمة لتطور الشعوب في مرحلة تاريخية معينة، إلا إنها في اليمن اتسمت بالركود وحالت بعض السياسات الخاطئة دون تجاوزها بطريقة موضوعية وتاريخية وازداد الأمر تعقيداً بتجاهل الزعامات السياسية الرسمية والحزبية لجملة من العوامل التي تغذي هذا الركود وتعيد انتاج التناقضات حيناً بعد آخر وأهم تلك العوامل ذات الطابع التناقضي التباين الثقافي والمعرفي والمعيشي السائد بين سكان أقسام البلاد الجغرافية المختلفة، الذي أفضى الى بروز ظاهرة التطورات غير المتوازنة لهذه الأقسام في مجالات التنمية الاقتصادية والثقافية وأفرز حالة من الانقسام الاجتماعي الظاهر فبينما يتجه سكان المناطق الزراعية والسهول نحو العمل الانتاجي والخدمي ويحصل أبناؤهم على قدر أعلى من التعليم والصحة يعزف سكان المناطق الأخرى عن العمل ولا يقبل أبناؤهم على التعليم، ويتجهون بدلاً من ذلك الى احتراف حمل السلاح والوجاهة الشكلية والالتحاق بالجندية والتطلع الى المراكز الوظيفية السهلة في الجهازين المدني والعسكري مما يؤدي بالنتيجة الى احساس القسم الأول بالاضطهاد وعدم المساواة تجاه شغل المناصب السياسية والعسكرية والتعرض للابتزاز المادي ويشعر القسم الآخر بالشح والحاجة وعدم المساواة في المستوى المعيشي.
وبصرف النظر عما ترتديه هذه الحالة التناقضية من تعبيرات مذهبية أو فئوية أو حزبية فإن أساسها واحد (كما سبقت الاشارة اليه) وسيبقى الأمر كذلك ما لم يعترف الساسة بهذه الحقيقة ويمتلكون الشجاعة على معالجتها بروح الاخلاص للوطن ومستقبله، باتباع سياسة للإصلاح الجذري في ميادين التنمية والثقافة والسياسة تؤدي الى فرص متكافئة لجميع أبناء الوطن دون النظر الى مكان الميلاد بما في ذلك الحق في شغل أي منصب سياسي إذا توفرت الكفاءة الذاتية.
التناقض الناشئ عن العلاقة بين السلطة والثروة، الذي استفحل في السنوات الأخيرة بسبب تحول السلطة الى معبر سهل للحصول على الثروة مما أدى الى تميز رجال الدولة بمستويات معيشية باذخة، مقابل الفقر والبطالة المتزايدة في صفوف الاغلبية، وما نتج عنه من كره متبادل بين الحاكم والمحكوم وتكالب غير معتاد على السلطة والاستماته على البقاء في المناصب القيادية بأي ثمن، حتى صار التجديد في اليمن أمراً عسير المنال، وهو ما ينذر بعواصف محتملة، ولن يحل هذا التناقض إلا اذا تمكن الآباء المؤسسون في هذا الجيل على تحقيق الفصل بين الثروة والسلطة، عن طريق جملة من الاجراءات الدستورية والقانونية والتنفيذية بصورة عملية، ابتداءً من فتح الباب لتداول سلمي وحقيقي للسلطة بحيث يصبح من حق أي مواطن كفء من المهرة الى صعدة، أن يشغل أعلى المناصب بما في ذلك رئاسة الدولة، واقتصار الحق في شغل هذا المنصب على دورة واحدة غير قابلة للتجديد إلا بعد فترات زمنية متباعدة وتحديد المدد الزمنية لشغل المناصب القيادية العسكرية والمدنية العليا بسقف زمني معين حتى يكون من الميسور اجراء سنة لله في خلقه في التعاقد والتجديد بصورة تلقائية سلمية والتحديد الصارم لصلاحيات كبار مسؤولي الدولة في الصرف من المال العام ووضعها عند سقف معين ليصبح الصرف بعدها (إذا دعت الضرورة) من صلاحيات المؤسسات وجعل مرتباتهم وتصرفاتهم وأموالهم معروفة للجمهور، وأن يقدم شاغلو المناصب العليا ما يسمى (بالذمة المالية) واعتبار السرية في هذا الشأن جناية إضافة الى تحريم الهبات من أراضي وممتلكات الدولة إلا بقرار من المؤسسات كمجلس الوزراء مثلاً وأحسب أن واحداً من الأسباب التي ساعدت على أن يكون التداول السلمي للسلطة ممكنا في البلدان المتقدمة يكمن في حقيقة ان مرتب رؤساء بعض الشركات في بعض البلدان أعلى من مرتب رئيس الدولة بفارق كبير والناس هناك يغتنون لكي يصلوا الى السلطة ولا يصلون الى السلطة ليغتنوا.
الإرتباط بين السلطة والعصبية العشائرية أو المذهبية أو الجغرافية إذ لابد من فك هذا الارتباط المعيق، ولا يعني ذلك تحريم شغل المناصب في السلطة على أبناء هذه القبيلة أو المذهب أو المنطقة أو تلك بل عن طريق تغيير الشروط غير المكتوبة لشغل المناصب العليا في الدولة بإضفاء الطابع المدني عليها وجعل الكفاءة والشعبية شروطاً تؤهل للوصول الى هذه المناصب بدلاً من القوة، وإعلاء الانتماء السياسي والحزبي على الانتماء العشائري أو المذهبي أو الانتساب الى المؤسسة العسكرية فالسلطة قوة بحد ذاتها وهي تحتاج الى الحكمة والثقافة والعقلانية لترشيد استخدامها وليس الى قوة اضافية.
(هـ) التناقض الديمغرافي الذي يتجلى في الازدحام والتكدس للسكان في مساحات محدودة ومعينة من البلاد وبقاء مناطق واسعة خالية إلا من تجمعات سكان ضئيلة كالمهرة وحضرموت وشبوة ومارب والجوف ومن الطبيعي ان الحل الأمثل لهذه القضية التناقضية سوف يتم تلقائياً من خلال التطور الاقتصادي وحاجات المجتمع للتنقل والتجارة والاستثمار والعمالة كما حدث في العالم بيد أن من واجب الساسة استيعاب هذه الوضعية واتخاذ القرارات السياسية والتنموية التي تسهل حدوث مثل هذا التغيير الضروري بسهولة وانسياب طبيعي، وفي المقدمة من ذلك توفير الشروط اللازمة للاندماج الوطني والتساوي في الحقوق والواجبات دون اعتبار لمحل السكن أو طبيعة المهنة ان التسريع بهذه العملية وجعلها ممنهجة نوعاً ما سوف يساعد على حل العديد من المشكلات الاجتماعية والتنموية ويخلق قدراً لا بأس به من التوازن السكاني اللازم للنهوض الاقتصادي والثقافي ويعزز من الانسجام والروابط الاجتماعية والحد من حركة الهجرة غير الاعتيادية من الريف الى المدينة والتكدس السكاني المصطنع فيها وما نجم عنه من أزمات في العمل والصحة والتعليم وانتشار الجريمة.