الحلقة الثانية من ورقة الشهيد جارالله عمر المقدمة للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني قبل حرب 1994
الثوري – من الذاكرة – (جارالله عمر)
التوقيع النهائي على وثيقة العهد والاتفاق.. مرحلة ما بعد عمّان:
لقد أكدت الأزمة السياسية التي تمر بها بلادنا على أن حزبنا كان ولم يزل قادراً على تجديد نفسه واستحضار ميراثه النضالي لمواجهة التحديات غير المألوفة والاضطلاع بدور قيادي في التعبير عن مصالح الناس رغم تغير الظروف على نحو غير متوقع ولعل وثيقة العهد والاتفاق شاهد على حسن أدائه واحتفاظه بزمام المبادرة في موضوع تأطير المشكلات الاجتماعية والسياسية، التي أراد الآخرون اضفاء الطابع الشخصي عليها، في جملة من البرامج التي تتضمن التشخيص ومقترحات العمل كما في الوثيقة، والأهم من ذلك كله النجاح الذي أحرزه الحزب الاشتراكي اليمني في الانتقال بالخلاف من اطاره الثنائي الذي كان يبدو كما لو أنه مجرد نزاع بين الحزب والمؤتمر على نسب النفوذ في السلطة الى الشارع السياسي والجماهيري، واضفاء الطابع الشعبي عليه بوصفه خلافاً برنامجي بين من يريدون بناء الدولة والرافضين له وهي المرة الأولى منذ أمد بعيد الذي تمكن الحزب الاشتراكي اليمني من خلق حالة من التطابق الموضوعي بين الشعارات التي يرفعها وبين المصالح العليا للغالبية العظمى من الناس، بين الداعين الى التجديد والتحديث واقامة النظام المؤسسي وأولئك الذين يرغبون في الحفاظ على المؤسسات التقليدية العتيقة التي تعيق الشروع في ارساء دعائم المشروع الحضاري، من خلال اقامة نواة لحامليه الأساسيين (الدولة الحديثة والمجتمع المدني).
غير أن التعثر الذي صاحب التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في عمان يوم 20 فبراير 1994، وما تلى ذلك من خيبة أمل شعبية ازاء فرص التوصل الى حل مناسب للأزمة الراهنة في اليمن، يطرح تساؤلات جدية حول المستقبل ومدى قدرتنا على استعادة زمام المبادرة وتوفير الشروط الضرورية لإعادة عجلة القطار السياسي للسير على قضبان الحل السلمي وتجنب مخاطر الحرب أو مراوحة الأزمة مكانها، بالتطبيق العملي للوثيقة ولو بصورة جزئية.
إن تحديد حجم الفشل ونسبة النجاح المتوقعة أمر مرهون بتطورات المستقبل وبموازين القوى السياسية التي ستنشأ خلاله، ومهما يكن الذي يحدث في ظل الأوضاع الراهنة فإن وثيقة العهد والاتفاق التي لا سباقة لها في تاريخ اليمن ستظل تشكل المرجعية التاريخية الوحيدة التي يعود اليها جميع الفرقاء حينما تنسد أمامهم السبل الأخرى وتحين لحظة الحوار الجدي، إنها المرجعية الوحيدة لكل عقد اجتماعي جديد يراد صياغته. ومهما اقتضت الظروف السياسية والاجتماعية المتغيرة في المستقبل ادخال بعض التعديلات الجزئية عليها ستبقى في مجملها في مستوى طموحات وآمال اليمنيين حتى مطلع الألف القادم على الأقل باعتبارها وثيقة التأسيس الأولى للمجتمع الجديد ولدولة حديثة وديمقراطية.
واليوم ونحن في خضم الأزمة التي تعيشها بلادنا فإن مهمتنا الأساسية تكمن في الحيلولة دون وصولها الى نقطة اللاحركة بإنهاء حالة المراوحة التي يمر بها الحوار السياسي في لجنة حوار القوى السياسية فلئن كان المؤتمر الشعبي وتجمع الاصلاح قد فشلا في تجميد نشاط اللجنة حتى الآن تمهيداً لإلغائها فإننا وبقية أطراف الحوار لم نفلح في تفعيل عمل اللجنة والانتقال بها نوعياً حتى تكون محور القرار السياسي، مثلما كانت حتى18 يناير الماضي ونقطة البدء التي بوسعها اعادة تفعيل دور ونشاط لجنة الحوار يكمن في استغلال وتنظيم ومتابعة الحركة الجماهيرية المتنامية ممثلة بعمليات الاعتصام الشعبي التي أخذت في الانتشار في معظم المحافظات، والتي من شأنها اعادة الزخم الى الشارع اليمني والالتفاف حول لجنة الحوار كعامل ضاغط يمنع المحاولات الجارية لتهميشها ومن أجل ذلك يتعين على الحزب الاشتراكي اليمني أن يساند وبدون تحفظ هذه العملية الشعبية وأن يحافظ في الوقت ذاته عليها كحركة عامة والحيلولة دون تحزيبها أو تجيير نشاطاتها لهذا الطرف الحزبي أو ذاك حتى لا تتعرض للانقسام والتلاشي في النهاية.
كما لابد من تقييم سريع لما جرى منذ 20 فبراير كحد كان يفترض ان ينتقل به الصراع السياسي من مرحلة البحث عن حل للأزمة الوطنية والبداية بتطبيق هذا الحل بعد أن استطاعت القوى الوطنية وفي المقدمة الحزب الاشتراكي اليمني والالتفاف الشعبي الواسع والتأييد العربي والدولي أن يجعل من وثيقة العهد والاتفاق الورقة الوطنية الأولى والمقياس غير المختلف(بفتح اللام) عليه لتقييم المواقف السياسية للأحزاب والشخصيات السياسية في اليمن والهدف من هذا التقييم السريع والموجز هو معرفة طبيعة ردود فعل الرأي العام في الداخل والخارج والقوى السياسية اليمنية بالذات إزاء ما حدث من تعثر والأسباب التي تقف خلفه وتأثير ذلك على مسار الصراع السياسي وعلى أوراق طاولة الحوار ومدى الامكانية المتوفرة لتحريك الأوضاع بالاتجاه الذي يخدم هدفنا بتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق التي اكتسبت شرعية شعبية وتأييداً عربياً ودولياً لم يكن متوقعاً من قبل، ويتعين على حزبنا ادراك معنى هذا التأييد والالتفاف حول الوثيقة وأن يحرص دائماً على التحرك في نطاق هذه الشرعية وعدم الابتعاد عنها، مثلما كان منذ منتصف هذا القرن قادراً على تجديد شرعيته شعبياً في كل مرحلة تطلبت مثل هذا التجديد ولا ريب أن جملة من الأسباب تقف خلف تعثر وربما فشل لقاء عمان لا تتعلق بطرف بعينه بل تشترك فيه كل الاطراف وخصوصاً المؤتمر والحزب اللذين ذهبا الى عمان في رحلة يغلب عليها الطابع الدعائي والرغبة في تسجيل المواقف السياسية كل ضد الآخر كامتداد للصراع الذي كان يجري طوال الأشهر الستة الماضية، دون ان يكون أي منهما قد سلح نفسه بموقف سياسي تفاوضي محدد يعرف خلاله ما هو حجم التنازلات التي هو على استعداد لتقديمها وما الذي سيحرز من مكاسب، ربما لأن احداً منهما لم يكن على دراية بموازين القوى السائدة على الأرض ناهيك عما صاحب الأيام التي سبقت التوقيع من مناخات متوترة سياسياً واعلامياً وعسكرياً وتفاقم أزمة الثقة التي كادت تبلغ درجة القطيعة لولا بقاء شعرة معاوية المتمثلة بلجنة الحوار والوساطات الخارجية.
ولأننا معنيون بالمراجعة النقدية لموقفنا وتحديد سلبياتنا وعدم اغفال ما يتميز به أداء الطرف الآخر، فإنني أعتقد ان دراية المؤتمر الشعبي أو ادراكه لموقفه كان على درجة من الوضوح وكانت حركته أكثر فعالية في لأيام القليلة التي سبقت التوقيع و اثناه أفضل مما هو الحال لدى قيادة الحزب الاشتراكي الموقف الذي يتلخص في القبول التكتيكي للوثيقة مؤقتاً على أحداث انفراج سياسي جزئي للتخلص من الضغوط الداخلية والخارجية مما يعطي مجالاً أوسع للمناورة والبحث عن ذرائع للامتناع عن تطبيق الوثيقة في وقت لاحق دون تحمل المسؤولية مثلما يفعل الآن وقد استخدم لذلك اسلوب التأكيد المستمر على الربط بين التنفيذ واجتماع الهيئات الذي كان يعرف سلفاً أنه لن يتم بالطريقة التي يريدها، بسبب موقف الحزب المعلن تجاه هذه المسألة الذي أملته الظروف الأمنية غير الطبيعية وأحسب أن الحاح المؤتمر أثناء اجتماعات عمان على العودة الفورية المشتركة الى صنعاء وتسريبه الفكرة الى الصحف كان مجرد رسالة اعلامية وسياسية لاقتناع الآخرين بصحة موقفه واحراج الحزب ودفعه الى الرفض العلني للمقترح وليس لتحقيق الفكرة بصورة عملية .
وفي كل الاحوال فأن تكتيك المؤتمر الأساسي كان ولم يزل يقوم على المناورة للزمن والرهان على ان تقادم الازمة دون حل سوف يخلق مللاً في الشارع اليمني والرغبة في الخروج منها بأي صورة كانت أو نسيانها كلياً، فضلاً عن التراجع المتوقع للاهتمام الخارجي بها والانصراف الى سواها من المشكلات السياسية الأكبر التي تشغل مراكز التأثير السياسي في العالم وبرغم أن وفد الحزب الاشتراكي اليمني قدم الى عمان وبيده وحده مشروعاً يتضمن جملة من الآراء والمقترحات لما بعد التوقيع إلا أنه جاء متأخراً ولم نحسن التمهيد له، كما لم نمتلك بدائل أخرى في حالة الرفض المتوقع بعدما استقر في الأذهان تفرد الحزب في التقدم بمقترحات مكتوبة .
إن أجواء الاستعجال المنفعل والحماس غير المدرك للتوقيع على الوثيقة الذي غلب على مواقف معظم الاطراف السياسية والاتهامات المتبادلة بعدم الرغبة في التوقيع عليها والضغط الشعبي والوهم الذي ساد لدى الناس وحتي بعض القادة السياسيين بما فيهم اعضاء في لجنة الحوار بأن مجرد التوقيع على الوثيقة سوف يشكل شفاء لكل جوانب الأزمة وهو ما جعل لجنة الحوار تستعجل في تحديد المواعيد بالتوقيع أكثر من مرة دون ان تكون قد انجزت المهام التي كان يجب البت فيها لضمان مباشرة تفنيد الوثيقة بعد التوقيع عليها، بل وصل الأمر الى وضع الطرف المطالب بالتحضير الجيد للتوقيع، موضع الشك في موقفه من الوثيقة بكاملها وكاد موقف الحزب الاشتراكي اليمني أن يتأثر سلباً أمام الشعب وفي الخارج لو أنه استمر لوحده في المطالبة لاستكمال التحضير قبل التوقيع وخصوصاً في ظل المتابعة الدولية لموعد التوقيع أو المصالحة اليمنية كما عبرت عنه وسائل الاعلام العالمية.
وجاءت الأحداث العسكرية في محافظة أبين صبيحة 21 فبراير 1994 التي تسببت فيها العفوية وعدم التنبه لحساسية الموقف من جانبنا التي خدمت قصد موقف قيادة المؤتمر المسبق في جعل المحافظات الجنوبية والشرقية نقطة البدء لأي صراع مسلح قد ينشأ، لتصل بلقاء عمان الى درجة تقترب من الفشل ورغم ان اليمنيين يتحملون المسؤولية الرئيسية فيما انتهى اليه لقاء عمان، إلا ان الجانب المضيف قد أسهم في ذلك الى هذا الحد أو ذاك. ذلك أن عدم ادراك الجانب الاردني لطبيعة وخلفيات المشكلة في اليمن بصورة عميقة قد أثر سلباً على النتائج التي أسفرت عنها لقاءات عمان ولا سيما مراهنته أكثر مما ينبغي على ما بدا وكأنه ثقة مشتركة من قبل الاطراف اليمنية بالملك وأن النتائج مضمونة مائة بالمائة ودون شك فإن الاخلاص والدوافع القومية في مساعدة اليمنيين على الخروج من مأزق الأزمة كانت تقف خلف موقف الملك الحسين كعامل رئيسي، بيد أن العقدة التي خلفتها أزمة الخليج وتلهف الاخوة/ الاردنيين لإحراز مكاسب سياسية تعادل الخسائر التي ترتبت على تلك الحرب، بما في ذلك اعادة تسجيل سابقة لحل الازمات العربية عربياً بعد فشل الجامعة العربية الشهير في اغسطس 1990 ، قد أضفت على الموقف الاردني شيئاً من عدم التأني، الاستعجال والحماس بقدر غير ضروري لاستضافة اللقاء في عمان في سباق مع غيرها من العواصم العربية وبالذات القاهرة دون التأكد سلفاً من استكمال التحضير والحدود التي تقف عندها مطالب طرفي الأزمة وحينما برزت تعقيدات الموقف في الساعات الأخيرة من عشية يوم التوقيع وأثناه أصيب الجانب الاردني بقدر كبير من الارباك إن لم نقل الصدمة مما أفقده القدرة الضرورية على المناورة والتدخل والبحث عن مقترحات وآراء غير مفكر بها أو غير معتادة لإنقاذ الموقف السياسي الخارجي.
بعد فشل لقاءات عمّان على الصعيد العربي يمكن القول بأن الموقف العربي تجاه الأزمة اليمنية شعبياً ورسمياً لم يتغير كثيراً قبل التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في عمان وبعده فبينما يتفهم موقف الحزب الاشتراكي اليمني تجاه قضايا الأمن وبناء الدولة الحديثة، فقد كان في معظمه أكثر تعاطفاً مع المؤتمر الشعبي بسبب الانطباع الذي خلق لدى الجماهير العربية بأن الانفصال إذا تم سيكون من جانب الحزب الاشتراكي اليمني ثم أن هذه الجماهير لا ترى في أية صعوبات مبرراً كافياً للتراجع عن الوحدة اليمنية، التي رأت فيها بعض العزاء والتعويض عما لحق بها من الهزائم وخيبات الأمل المعتاد بما في ذلك فشل محاولات الوحدات العربية المتكررة.
وكان الموقف الرسمي العربي يتراوح بين الحياد أو عدم الاهتمام لدى بعض الدول العربية وبين التعاطف مع الحزب ومناهضة الرئيس على عبدلله صالح باستثناء الموقف القطري الذي يتعاطف مع الرئيس بوضوح إلا أن تغييراً ملحوظاً قد طرأ على مواقف بعض الدول العربية تجاه أطراف الأزمة في اليمن وأبرز ما في هذا التغيير، التحول في مواقف مصر والامارات العربية وسوريا التي استقبلت الرئيس في زيارات رسمية وبشكل علني على عكس الممانعة السابقة، بل وأبدت مصر ودولة الامارات الرغبة في القيام بدور الوسيط، مما يشكل انفراجاً في طوق العزلة الذي كان مضروباً حول المؤتمر الشعبي والرئيس بالذات ويبدو أن اعلان الرئيس استعداده لتسليم الارهابين المصريين وتوقيع اتفاقية أمنية ثنائية مع القاهرة ورغبة مصر في العودة لتوسيع دورها على المسرح العربي، قد أعاد الموقف المصري الى درجة من التوازن عند نق نقطة وسط بين طرفي الصراع في اليمن وحينما أعلنت مصر استعدادها للوساطة وأبدت الجامعة العربية الاهتمام بالأزمة من جديد فإن ذلك قد استفز الجانب الاردني، واعتبر أن مصر تعمل على النجاح فيما فشل فيه الاردن، بخلفية تنطوي على قدر من التنافس المشوب بالكبرياء، أي ان الاردن حاول أن يغتصب دوراً ليس له ويبدو أن وزارة الخارجية في صنعاء قد حققت بعض النجاح في الايحاء للجانب الاردني بأن ادخال مصر والجامعة العربية الى الحلبة من جديد عائد الى رغبة الحزب الاشتراكي اليمني وحده في التحرك خارج وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في عمان، الأمر الذي اضاف أسباباً جديدة لحالة الفتور في العلاقة بيننا وبين الجانب الاردني بجانب الاشكالات البروتوكولية وما أعتبره الاردنيون تصلباً من جانبنا برفض مقترح الملك حسين في العودة المشتركة الى صنعاء باعتبار ذلك عملاً رمزياً لنجاحه، على الرغم من تفهمه لمطالب الحزب الأمنية وتلكؤ الطرف الآخر في حسم هذه المسألة واجمالاً، فبينما لم يخسر الحزب الاشتراكي اليمني كثيراً على الصعيد العربي فإن وضع الرئيس على عبدلله صالح والمؤتمر الشعبي قد تحسن نوعاً ما فبعض الابواب التي كانت موصده قد فتحت أمامه للتحرك وطرح وجهة نظره على الأقل تجاه الأزمة، وربما يكون هذا الاحساس بالتغيير لصالحهم هو الذي حدى بوزير الخارجية الطلب الى السفراء في صنعاء عدم التعامل مع الحزب الاشتراكي اليمني إلا عبر وزارة الخارجية، دون اكتراث لما قد يسببه هذا التصرف في احراج وردود أفعال غير ملائمة بالنسبة لليمن ولأصدقائها، وربما لم يدرك أن هذا النوع من التصرف قد يؤدي الى عكس ما يريده المؤتمر وهو تدويل الأزمة خصوصا وأن بعض الدول العربية والاسلامية لن تقبل هذا الطلب بسهولة.
على المستوى الدولي الأمر لا يختلف إلا من بعض الوجوه فيما يتعلق بالموقف الدولي تجاه الوضع في اليمن، لاسيما تلك الدول التي تمسك بمفاتيح التأثير على القرار في العالم وبالذات الولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي وروسيا الى حد ما، التي أخذت تظهر اهتماماً متزايداً بالأوضاع السياسية خارج كتلتها السابقة ويتلخص الموقف الامريكي الاوروبي بعد التوقيع على الوثيقة وظهور مؤشرات احتمال صدام عسكري، في عدة نقاط:
بقاء لأساسيات في الموقف السياسي السابق المعلن ولكن مع تبديل الأولويات من خلال التركيز على منع الصدام المسلح .
التعبير بين حين وآخر عن رأيهم في أن موقف الحزب أضحى أقل مرونة وأمْيَل الى التشدد في المضمار السياسي وفي الوصول الى حل وسط من خلال رفضه غير المعلل بما يكفي لاجتماع الهيئات، وبالمقابل يرون أن المؤتمر الشعبي أميل الى الرغبة في الصدام المسلح.
يلاحظ ان الدبلوماسية الاوروبية الامريكية والأخيرة بالذات عملت بشكل منسق على تكثيف الاتصالات بطرفي الحزب والمؤتمر لمنع نشوب الحرب، ومارست ضغوطاً كبيرة على الطرفين لضبط النفس عن طريق التبصير بمخاطر الحرب التي اذا نشبت فقد تطول عشر سنوات أو أكثر وستكون على شكل حرب خنادق مثلما كان الحال عليه في الحرب العالمية الأولى على حد تعبير السفير الامريكي وقد رفض السفير الامريكي إثر أحداث 21 فبراير في محافظة أبين طلب الرئيس على عبدلله صالح ادانة الحزب الاشتراكي اليمني باعتباره المتسبب في إثارة التوتر العسكري لأنه كان يرى أن موقفاً كهذا يحول دون مواصلة الاتصال بالطرفين، ولأن كل طرف قد اسهم بقصد في الفعل ورد الفعل الذي أوصل الازمة الى حافة الحرب، وقد عبر صراحة أمامنا بأنه لم تكن ثمة حاجة لتحريك لواء الوحدة وارسال المدرعات في الوقت الذي تم فيه ذلك ولكنه حرص بالمقابل كما تأكد من مصادر موثوقة على إبلاغ الرئيس بأن عدم تنفيذ مقترحات اللجنة العسكرية المشتركة كما وعد الرئيس نفسه يطرح علامة سؤال هامة حول المصداقية، أو أن هناك مراكز قوى في الجيش لا تأتمر بأوامره، وأنها تفعل ما تريد وقد كان للموقف الامريكي هذا بالإضافة الى موقف الجانب الاردني والعماني في اللجنة العسكرية المشتركة وضغط الرأي العام أبلغ الأثر في قبول مقترحات اللجنة العسكرية المشتركة وتنفيذها ولو بصورة جزئية ومترددة.
وبإيجاز فإن الموقف الامريكي الاوروبي لم يزل يتسم بالحياد الفعال وأن كان قد تأثر الى هذا الحد أو ذاك بحقائق الوضع العسكري والسياسي الذي نشأ اثناء وبعد التوقيع على الوثيقة في عمان ناهيك عن تأثير دور العاصمة والرئاسة والسيطرة شبه التامة للطرف الآخر على أجهزة وزارة الخارجية التي تعد ولاشك وسيلة مهمة للتأثير على السلك الدبلوماسي، من خلال الاحتكاك الدائم بممثلي الدول الاجنبية وايصال المعلومات التي يرونها داعمة لوجهة نظرهم في الوقت المناسب ولكن المصالح تبقى هي العامل الحاسم في تحديد المواقف، ولعلها هي التي أملت على الجانب الاوروبي الامريكي القيام بالمزيد من التحرك والاتصال بالأطراف المختلفة والضغط لوقف التصعيد وعدم المبادأة للقيام بأعمال عسكرية، ولكنهم لم يصلوا الى درجة تقديم الضمانات للطرف الذي يأخذ موقفاً دفاعياً أو الانذار باتخاذ اجراءات عقابية ضد الطرف الذي يثبت أنه المعتدي، باستثناء تلميح السفير الأمريكي الى ان حكومته تفكر بالسبل التي من شأنها وقف توريد الاسلحة الى اليمن من بلدان اوروبا الشرقية بالذات ورغم ان تجربة التدخل في الصومال والمخزون النفسي لدى الامريكيين من جراء حرب فيتنام يجعل الغرب أكثر حذراً من اعلان تبني سياسات فعلية للتدخل، إلا أن مصالحهم هنا تختلف كلياً عن الصومال فاليمن الدولة النفطية المحتملة والمجاورة لبحيرة النفط في الجزيرة والخليج والتي تتمتع بموقع استراتيجي هام، قد تملي عليهم في يوم ما تغيير هذه السياسة ولا شك أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه المصالح وتأكيد سفراء هذه الدول المستمر على تأييدهم للوحدة اليمنية واستمرار التعددية السياسية والتأييد الرسمي لوثيقة العهد والاتفاق ومعارضة اللجوء الى العنف والحرب، وبيدهم من الوسائل ما يلحق الضرر بأي طرف يرون في سياسته ما يؤثر على مصالحهم في المنطقة وينبغي استحضار عواقب السياسة التي اتبعتها حركة (يونيتا) في انجولا، وهي السياسة التي جعلتها خارج الشرعية الرسمية والدولية وفي مواجهة أصدقائها السابقين ويجب أن ندرك أن اقرار الغرب الضمني لتفرد الحزب في ادارة مناطق نفوذه والاحتفاظ بجيشه الخاص وعدم حماسهم لاستخدام الاكثرية البرلمانية ضده، يشكل سابقة تخالف المعايير التي يعتمدها في هذا الشأن تجاه أطراف متصارعة في دولة يعترف بسيادتها الموحدة، الأمر الذي ينم عن تفهم استثنائي لمطالب الحزب الأمنية وبناء دولة حديثة ورغبته في التحديث فضلاً عن مراعاته للتعقيدات التي اكتنفت اقامة الوحدة وعمر دولتها القصيرة وبالمقابل لابد أن نعي بأن الغرب الذي يعبر عن قلقه من تأثير الحالة الأمنية المتردية في اليمن على الأمن الاقليمي والعربي يتفهم الصعوبات الاجتماعية والسياسية للأوضاع في بعض المحافظات الشمالية التي سمحت بانتشار ظاهرة السلاح بصورة علنية وحاجة الرئيس على عبدلله صالح لتأييد بعض مراكز التأثير بين أوساط القبائل والجيش، بالإضافة الى ما يجري في الجزائر ومصر من صراع بين الدولة والاصوليين الأمر الذي يدفع الغرب الى توخي الحذر من الضغط على الرئيس لاتخاذ اجراءات صارمة ضد المتطرفين في الجهاد، بل والتعبير عن الرضاء تجاه السياسة البرجماتية التي يتبعها الرئيس تجاه الظاهرة الأصولية، واشراك المعتدلين منهم في الحكم بدلاً من اضافة دولة عربية اخرى الى بؤر التوتر القائمة حالياً في الشرق الأوسط.
إن الموقف الغربي الراهن الذي يتسم بتفهم جانب من مطالب كل طرف وبالحياد المتوازن لن يظل بلا حدود وغير مشروط، ففي حالة اقدام أي من طرفي الأزمة على المجازفة باتباع سياسات تؤدي الى التصادم مع الحقائق التي بنى عليها الغرب موقفه كالدعوة للحرب أو الانفصال أو اعتماد سياسة تفاوضية متصلبة، فإن هذا الموقف قابل للتغيير.
إن موقف الغرب الإجمالي من الأزمة اليمنية تعبير عن التقاء مصالحة مع طرفي الأزمة عند نقطة معينة واذا ما حدث افتراق بين مصالح الغرب وموقف أي من طرفي الأزمة في اليمن فإنه سيتخلى عن موقف الحياد المتوازن ويقف في مواجهة الطرف الذي يرى في سياسته سلوكاً مناهضاً للاستقرار الذي يهدد مصالحه على الصعيدين المحلي والاقليمي ردود الأفعال على فشل لقاءات عمّان والمستجدات السياسية على الساحة اليمنية لا شك أننا ندرك جميعاً ان تفاقم الوضع العسكري بعد فشل لقاء عمّان والذي بلغ درجة توقع انفجار الحرب بين يوم وآخر قد انتقل بالأزمة على الصعيد الداخلي شعبياً وسياسياً الى طور آخر.
إن نزوع بعض قيادات المؤتمر للقيام بمغامرة عسكرية في محاولة لاستباق الآثار التي توقعتها من زيارات وفود الحزب الاشتراكي اليمني لبعض البلدان العربية وبالذات الخليج وتكييف عملها السياسي والدعائي للترويج للانفصال المزعوم، كاد يبدل طبيعة الأزمة عن طريق جلب أنظار الناس الى جانبها العسكري وارغام الساسة والمواطنين في اليمن على تركيز جهودهم لمنع الحرب وأمست الوثيقة والقضايا التي تضمنتها تحتل موقعاً ثانوياً ومجرد ورقة دعائية يستخدمها الجميع بالتساوي دون أن يكون في مقدرة الآخرين بما في ذلك القريبين من موقف الحزب التمييز بين الزعم والحقيقة فالشارع اليمني الذي كان يطالب بتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق في المقام الأول بوصفها وسيلة للإصلاح والتغيير الجذري أخذ يرفع شعار منع الحرب والانفصال أولاً وتنفيذ الوثيقة ثانياً، وربما ليس لما تضمنته من قضايا بل على أمل انها أي الوثيقة تحول دون حدوث أحد الشرين أو كليهما.
في مضمار مواقف الاحزاب والشخصيات السياسية الممثلة في لجنة الحوار فإننا اذا ما استثنينا موقف الاصلاح الذي اعادته الأزمة الى التحالف الأكيد مع قيادة المؤتمر الشعبي الى درجة يصعب التمييز بين موقفيهما، فإن معظم اعضاء لجنة الحوار كانوا يقفون وبشكل متزايد الى جانب التوصل الى وثيقة العهد والاتفاق بالشكل الذي أخرجت فيه في النهاية، الأمر الذي كان ينظر اليه من قبل الاصلاح والمؤتمر على أنه انحياز غير معلن لوجهة نظر الحزب الاشتراكي اليمني وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الانطباع فإنه لا يمكن اغفال الاهمية القصوى التي ارتدتها عملية توسيع لجنة الحوار لجهة تعديل الميزان السياسي الذي كان مختلاً حينما كان الحوار مقتصراً على اطراف الائتلاف لغير صالح التوصل الى حل متوازن، الأمر الذي لم يؤدِ فقط الى اخراج العملية السياسية من نطاق مؤسسات الائتلاف التي يتفوق فيها الطرف الآخر الى العلن، ووضع الناس في صورتها، بل وأدى الى توصل لجنة الحوار الى نتيجة ملموسة في ظروف مواتية وفي وقت أسرع مما كان متوقعاً ولو لم تبادر اللجنة المركزية الى تبني الدعوة لتوسيع نطاق المشاركة في الحوار لكان الوضع مختلفاً تماماً غير أنه لا ينبغي الاعتقاد بأن ذلك الموقف سيظل باقياً على حاله دون تغير، ولاسيما في حال اخفاق قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في تطوير خطابها السياسي وتقديمه الى هذه القوى بطريقة مقبولة لديها وبما يتناسب والمرحلة الحالية إذ تدل بعض المؤشرات الأولية على ان مواقف اطراف المعارضة في (اتحاد القوى الوطنية وتكتل المعارضة والبعث) بعد التوقيع على وثيقة العهد في عمان، آخذة في التغيير ولو بصورة طفيفة وبدرجات متفاوتة من حزب الى آخر، وهوما لا ينبغي اغفاله مع أن ممثلي تلك القوى والأحزاب لم يطرحوا موقفاً رسمياً بهذا الصدد وبرغم شجبهم لتلكؤ ممثلي الاصلاح والمؤتمر في لجنة الحوار عن المناقشة اثناء اجتماعاتها في عدن أواخر فبراير الماضي، إلا أن جملة من الملاحظات والتساؤلات المتفرقة هنا وهناك تشير الى ظهور بوادر الشك وعدم الرضى حيال موقف الحزب أيضاً ولاسيما افتقاره للمرونة أثناء التوقيع في عمان واسهامه في خلق مناخ اتسم بالتوتر ولا يشكل أرضية مناسبة للتفاوض والأهم من ذلك التساؤل الذي يتنامى تجاه موقف الحزب الحقيقي من الوثيقة، خاصة في ضوء انتشار بعض الشائعات والأخبار الصحفية والسرية المنسوبة الى مصادر قريبة من الحزب تشير الى أن الحزب الاشتراكي اليمني ما برح متمسكاً بالدعوة الى الفدرالية بل والكونفدرالية أحياناً، وعدم نفي تلك الأنباء، مما تسبب في التساؤل وأضر بمصداقية الحزب وعلاقاته التحالفية وفتح الباب أمام احتمالات التغيير في موقف أحزاب (تكتل المعارضة وحزب البعث واتحاد القوى الوطنية).
وبصرف النظر عما اذا كانت تلك التسريبات الصحفية من قبيل الرسائل المفتوحة الى قيادة الاصلاح والمؤتمر وتحذيرها من مغبة الاقدام على مغامرة عسكرية، أو انها بمثابة اطلاق بالونات الاختبار والمناورة في اطار العملية التفاوضية الجارية، فان وجهها الآخر يقرأ بطريقة سلبية من قبل حلفائنا وجماهير الشعب بل ويضع اعضاء الحزب وأنصاره في موقف دفاعي، مما يرجح الجانب السلبي في هذا النوع من العمل السياسي والاعلامي غير المحسوب تأثيره على ميزان القوى السياسي الحساس القابل للتغيير لدى ارتكاب أية أخطاء تكتيكية وفي أية لحظة على نحو يصعب اصلاحه ويدل على صحة هذا الاستنتاج ما انتهى اليه الشيخ سنان أبو لحوم والعميد مجاهد أبوشوارب، اللذان لهما وزناً شعبياً واجتماعياً لا يمكن اغفاله ولا ينبغي التقليل من أهمية البيان الذي اصدراه وتأثيره على الرأي العام خصوصاً وأن موقفهما حيادي ويدل على اخلاصهما للحل السلمي المتوازن، ولكن كان رفضهما للحرب يعد بالمقياس العام مكسباً للحزب الاشتراكي وكل أنصار السلام وخسارة على الطرف الآخر، فإن البيان يمثل بوضوح إدانة مشتركة للمؤتمر والحزب على السواء، سيما وقد أشار البيان في واحدة من أهم فقراته الى أن الحرب والانفصال واقعان لا محالة، وكأنهما يقولان أن الرئيس على عبدلله صالح يتحمل مسؤولية الدعوة والعمل الى الحرب التي ستدفع الحزب الاشتراكي اليمني الى اعلان الرغبة في الانفصال، وبالطبع فإن موقف الرجلين الآن قد تعدل بعض الشيء باتجاه تحميل الرئيس والشيخ عبدلله الأحمر مسؤولية أكبر في عدم حل الأزمة السياسية بيد أن الفضل في ذلك لا يعود الى سلامة خطابنا السياسي بل الى الرد الانفعالي من قبل الطرف الآخر بسبب معلوماته غير الدقيقة عن الأسباب التي حدت بهما الى اصدار بيانهما الشهير والسفر الى الخارج فوراً فالرئيس يعتقد أن البيان قد صيغ في عدن وأرسل بالفاكس الى صنعاء وأن هناك تنسيقاً مع الحزب الاشتراكي اليمني من نوع ما، الأمر الذي يؤكده تكرار اذاعة البيان من عدن في اليوم التالي، ولذلك أخذ الشيخ عبدلله الأحمر يهاجمهما بشكل صريح في الصحافة ويفعل الرئيس نفس الشيء ولكن في مجالسه وليس في الصحافة والاستنتاج الذي نود الوصول اليه هو أن علي الحزب بذل المزيد من العناية والانتباه الى ما يمكن أن يطرأ على موقف القوى والشخصيات السياسية التي تتبنى الحلول الوسط من تغيير يؤثر سلباً على مسيرة الحل السلمي المتوازن اذا لم يثبت مصداقية ووضوح خطه السياسي، الأمر الذي قد يسحب نفسه الى صفوف الحزب وأنصاره إن لم يكن قد بدأ ذلك بالفعل وهناك حملة اعلامية نفسية توجه يومياً لأعضاء الحزب وأنصاره في عدد من المحافظات ولبعض القوى السياسية والشخصيات المتعاطفة معه ولسان حالها يقول: إن شعار الفيدرالية والكونفدرالية مجرد تمهيد للانفصال الفعلي وأنكم ستتركون هنا وأظهركم الى الحائط واذا لم يكن لديكم استعداد لارتياد السجون والتشرد في الجبال والتعرض للإهمال والازدراء السياسي مقابل الدفاع عن قضية خاسرة فإن عليكم تحديد موقفكم اليوم قبل الغد، وكل من يبادر فسيكون له فضل السبق وخير (البر) عاجله.
ومما يدل على أن الطرف الآخر يعمل على تنفيذ توجهاته هذه، بصورة عملية الانذار الذي وجه الى عدد من اعضاء المكتب السياسي وقيادات حزب الحق والتنظيم الوحدوي الناصري المتواجدين في صنعاء بالرحيل وإلا فإن حياتهم في خطر، والاتصالات التي جرت مع بعض الشخصيات القيادية في بعض منظمات الحزب الاشتراكي اليمني (في العاصمة صنعاء وحجة وإب وغيرها) من قبل عناصر قيادية عليا في المؤتمر الشعبي، وما صاحب ذلك من تهديدات وضغوط لدفعهم لأخذ موقف ضد الحزب أو مغادرة المحافظات واغلاق المقرات، والأخطر من ذلك اعطاء أوامر للوحدات العسكرية بالتعامل مع من اسموهم وقد يكون هذا « الأمر بالقتل » مباشرة وهو ما يعني باللغة العسكرية « المخربين » ب السلوك مجرد عودة للأساليب القديمة في مناخ أزمة جديدة وليس فيه ما يدعو للاستغراب، وأن يدافع المرء عن الموقف السياسي الذي يتبناه ويدفع ثمن قناعاته معاناة وتضحية، أمر بديهي ومطلوب في جميع الحالات، غير أن كل انسان له الحق في المطالبة بالحصول على وضوح تام للفكرة التي يُدعى للتضحية تحت رايتها وتفسير المواقف المختلفة المتعلقة بها، وعلى القيادة واجب العمل في ازالة أي تشويش أو غموض قد يلحق بها ضد الاعضاء والانصار والحلفاء على السواء لأي سبب كان بما في ذلك نشاطات الخصم السياسية والاعلامية والنفسية التي تستهدف هز المعنويات تجاه الفكرة التي يدافع الآخرون من أجلها وحينما نتحدث عن موازين القوى السياسية فإنه ينبغي أن ندرك بأننا إذا خسرنا تعاطف القوى السياسية والآلاف من جماهير الشعب التي أثرت ايجاباً وبشكل ملموس على الميزان السياسي العام فإن الكلام عن الحفاظ على الميزان الحالي ناهيك عن تعديله بشكل أفضل سيغدو مجرد أضغاث أحلام إن لم يكن لغواً لا معنى له، ولسوف يضعف الطابع الوطني العام للصراع ليرتدي بدلاً من ذلك طابعاً شمالياً جنوبياً، وبصورة سافرة، الأمر الذي لم ترده قيادة الحزب ولا تفكر فيه بالتأكيد، وليس لصالحها بأن تفعل ذلك.
غير أن عليها ان تمنع حدوثه، سيما ونحن نعرف أن المؤتمر الشعبي يتمتع بتحالف سياسي افضل اعتماداً على الاصلاح وبآلة دعائية وسياسية قوية، بالإضافة إلى أغلبيتها في هيئات الائتلاف التشريعية والتنفيذية، والأخطر من ذلك كله ما يمتاز به الاصلاح من مقدرة على توظيف الدين الاسلامي الحنيف في عملية الصراع السياسي وتجنيد الآلاف للقيام بأعمال الاغتيالات وممارسة كل أشكال العنف والمشاغبة على أكثر من صعيد، وامكانية الاصلاح والمؤتمر معاً في اثارة النعرات القبلية، ولدى الطرفين مقدرة ديماغوجية كبيرة في استخدام الشعارات الوطنية والدينية ضد خصومهما وفي الصراعات والحروب يصبح كل شيء مشروعاً من أجل هزيمة الخصم وعلينا أن ندرك أن العامل الخارجي غير المواتي نوعاً ما للإصلاح والمؤتمر الآن لا يمكن إلا أن يتأثر بطبيعة الموازين السياسية على أرض الصراع ومن هنا تنبع أهمية التمسك بالتحالفات التي نجح الحزب في اقامتها الى هذا الحد أو ذاك، بل والعمل مجدداً على نسج علاقات سياسية وتفاهم قدر المستطاع مع المعتدلين من المؤتمر الشعبي وتجمع الاصلاح ومن أجل أن يتحقق ذلك على الوجه الأكمل يتعين علينا إدراك أن طبيعة خطابنا السياسي ودرجة وضوحه ومصداقيتنا السياسية والاعلامية التي تراعي مصالح الآخرين ووجهات نظرهم هي وحدها الكفيلة بالحفاظ على المستويات الراهنة في العمل السياسي وتطويرها الى أعلى والسبيل الوحيد لإزالة ما حدث من تشويش ذهني لدى الآخرين تجاه مواقف الحزب السياسية وأهدافه النهائية بعد لقاء عمان، يكمن في المقام الأول في الإعلان مجدداً وبجميع الوسائل بما في ذلك من خلال الهيئات القيادية في الحزب وفي مؤسسات الدولة ولجنة الحوار وعلى الملأ التزام الحزب الاشتراكي اليمني الصارم والقطعي بالحفاظ على الدولة اليمنية الموحدة والتمسك الأكيد بوثيقة العهد والاتفاق كوسيلة لتنظيم هذه الدولة واعادة بنائها وتحديثها والتخلي عن أي مقترحات خارجها والنفي أولاً بأول لما ينسب إلى الحزب من أنباء صحفية غير صحيحة تشير الى أن له مطالب جديدة خارج وثيقة العهد والاتفاق، بما في ذلك الفيدرالية رغم أننا على صعيد المناقشة الداخلية في الحزب نعتقد بأن التعبير عن أية مواقف، بما في ذلك مقترح الفيدرالية يعد حقاً مشروعاً من حيث المبدأ، ومن حق أي شخص أن يجتهد برأيه فالفيدرالية من الوجهة الدستورية والقانونية هي بمثابة عملية تنظيمية وادارية داخلية للدولة المتحدة وهي تقترن وتصاحب دائماً الوحدة وليس الانفصال أي ان لها طبيعة وحدوية كما نعرف عن العديد من الأمثلة في العالم، واقتراحها ليس كفراً بواحاً أو خيانة وطنية، كما ذهب البعض، ولكن مقترحات من هذا القبيل لم يجر تبنيها من قبل أية هيئة حزبية بصورة رسمية كما أنها سابقة للوثيقة، والوثيقة تجب ما قبلها، سيما وأن الحزب قد أعلن التزامه غير مرة بوثيقة العهد والاتفاق بوصفها العقد الاجتماعي الجديد ووثيقة التوافق السياسي والاجتماعي الوطني النهائية، وكما أكدت على ذلك خطابات وتصريحات الأخ الأمين العام وقيادات الحزب الأخرى. ناهيك عن أن وثيقة العهد والاتفاق قد ارتكزت في معظمها على النقاط الثماني عشر التي تقدم بها الحزب وتمت صياغتها النهائية والتوقيع الأولي عليها في عدن ) تحت رئاسة الأخ المهندس حيدر أبوبكر العطاس عضو المكتب السياسي للحزب رئيس الوزراء الذي يعد المرجع الروحي) لذلك الميثاق، بكفاءته وصبره ومقدرته على الحوار المقنع إن من شأن أي تصريح ولو تلميحاً الى أية أفكار خارج هذه الوثيقة أن يضعف مصداقيتنا ويزرع بذور الشك بين أعضاء حزبنا وأنصاره وحلفائه وجماهير الشعب وأمام العالم حول أهدافنا النهائية، وفيما إذا كنا نعرف ما نريد بالضبط؟!! ثم أن اعادة طرح فكرة الفيدرالية من جديد من قبل طرف أساسي موقع على وثيقة العهد والاتفاق يسقط الوثيقة نهائيا دون أن يكون ثمة بديل لها، ويؤدي الى تحقيق حلم الطرف الآخر بفض لجنة الحوار عملياً وهو بالنسبة لأعضاء الحزب بمثابة سلاح دعائي بيد الخصوم السياسيين لإضعاف معنوياتهم وهو بالنسبة للحلفاء انهاء عملي للبرنامج المشترك كما أنه بالنسبة لخصومنا السياسيين التي ارغمتنا الجغرافيا والوطن المشترك على العيش في سفينة واحدة تخلياً صريحاً عن العقد الاجتماعي المشترك، وليس بوسع المرء ان يختار خصومه ولا الوطن الذي يعيش فيه واذا كان المقصود بالفيدرالية أن تكون بين الشمال والجنوب فستنظر اليها جماهير الشعب المتعاطفة مع الحزب في المحافظات الشمالية التي تشوش وعيها تجاه هذا المصطلح وصارت ترى فيه شكلاً من اشكال الانفصال، على أنه ببساطة وفي أحسن الاحوال تخلياً عنهم ونكوصاً من قبل الحزب عن القيام بمسؤولياته الوطنية تجاه الناس الذين عانوا ويعانون من القمع والاضطهاد واللامساواة وعلى ذلك ينبغي حسم هذا الموضوع بدون ترد قبل فوات الأوان وقبل أن يحدث الخلل الذي لا يمكن إصلاحه.
أما الكونفدرالية فأعتقد أن الحديث عنها مجرد مزحة ثقيلة على النفس والعقل، لأنها تعني الحد الأعلى للعلاقات السياسية بين دولتين مستقلتين ذات سيادة، وفي ظلها لا وجود لوطن يمني موحد، وهو أمر مرفوض من قبل الغالبية الساحقة من المواطنين اليمنيين عموماً لتناقضه مع مصالحهم وتطلعاتهم الآن وفي المستقبل ونحن إذ نتفهم نفور مواطنينا في المحافظات الجنوبية والشرقية مما رأوه هيمنة والحاقاً واخلالاً بالأمن وعدم الاعتراف بالتنوع الاجتماعي من قبل عقليات ما برحت مشبعة بالقيم العشائرية وبالروح العصبوية التي تعود جذورها الى عقلية العصور الوسطى، ندرك تماماً ان هذا المزاح الذي تكون في ظل هذه الممارسات الخاطئة اثناء الفترة الانتقالية مؤقت وسيتغير باتجاه إيجابي ومن واجب الحزب الاشتراكي اليمني أن يضاعف من دوره الوطني لترشيد وعي الناس بما لديه من أفق استراتيجي وتبيان أن السياسة الخاطئة من قبل القيادة السياسية لدولة الوحدة التي عجزت عن جعل الوحدة خادمة لمصالح الناس وليس نافية لها، هي المسؤولة عن السلبيات التي حدثت وليس الوحدة في حد ذاتها التي هي دون شك مطابقة لمصالح الناس وعواطفهم معاً ومن نافلة القول أن عدداً من المؤشرات المتزايدة تحملنا على الاعتقاد بأن حالات الغضب التي تملكت بعض مواطنينا في المحافظات الجنوبية والشرقية تجاه دولة الوحدة آخذة في التراجع ولم تعد تتنامى كما كان الحال عليه قبل أشهر بسبب الجهد السياسي الذي بذل من قبل قيادات الحزب الاشتراكي اليمني في أوساط السكان والتأكيد الثابت من خلال بياناته وتصريحات قياداته والأمين العام بالذات على قضية الوحدة بوصفها قضية لا يمكن العودة عنها، وأن الأمر محل الاختلاف والنقاش ليس الوحدة ذاتها بقدر ما يتعلق الأمر بالوسائل التي تعزز من بناء دولتها وتكسبها الحصانة والافضلية وازالة الاخطاء التي تلحق الضرر بقيمتها المعنوية وتضعف من الآمال المعلقة عليها بالإضافة الى أن الاشهر التي شهدتها الأزمة السياسية وما صاحبها من توتر وصعوبات في التواصل بين محافظات البلاد المختلفة، قد أظهر بجلاء مدى الضرر الذي لحق بمصالح الناس على مختلف شرائحهم الاجتماعية ومشاربهم السياسية، وكمثال فإن اشكالات التوقف أمام نقاط التفتيش والآثار السلبية التي مست كل الشؤون الحياتية للناس كالتجارة والعمالة والاستثمار والروابط العائلية والشخصية والسياحة الداخلية وحالة عدم الاستقرار العام، قد أعادت الى الوعي الشعبي قدراً لا بأس به من التوازن والتفكير في التكلفة الباهظة التي سيدفعها المواطن في حالة الانقسام والتشرد والحروب قياساً إلى المعاناة المحدودة التي تسببت فيها الأزمة الراهنة وما أدت اليه من تعثر في مؤسسات العمل وتعطل في المصالح العامة، ولقد أخذ الكثير من مواطني بلادنا عموماً يدركون أن الصبر على المكاره وتحمل المشاق والمعاناة في ظل الوحدة أيسر بكثير مما قد يحدث في ظل التشرد، والانقسام، فيوم واحد من القطيعة بين شمال وجنوب الوطن يكفي لإلحاق الضرر بمصالح عشرات الآلاف من الناس وإذا كان اقامة دولة الوحدة قد تسبب في العديد من المعاناة لدى قسم من السكان فهو في المقابل قد أنشأ العديد من المصالح لدى قسم آخر منه وقد لا يكون القياس أو المفاضلة بين الأمرين متاحاً في الوقت الراهن، أي أن هناك من مواطني بلادنا من لا يمكنهم ادراك فضائل الوحدة وأهمية المصالح التي انشأتها إلا في حالة تعرضها للخطر، وكما يقول كثير عزه: ((وما كنت أدري قبل عزة ما البكاء …..ولا موجعات القلب حتى تولتِ )) .
ولا شك أن قيادة الحزب الاشتراكي اليمني التي تحملت العديد من المخاطر في أمنها الشخصي والعائلي من أجل بقاء الدولة اليمنية موحدة لا تتحمل أي قدر من المسؤولية بالتسبب بنشوء الوعي السلبي الآني لدى بعض فئات السكان تجاه الوحدة اليمنية ولم تتسبب في نشوء الأزمة، خصوصاً وان قيادة الحزب قد حذرت غير مرة من مغبة تجاهل الطرف الآخر لعواقب الحالة الأمنية غير الطبيعية واهمال مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة فالطرف الآخر وحده يتحمل كامل المسؤولية فيما حدث خصوصاً لجهة عدم اعترافه بالزمن الجديد وفشله في ادراك المتغيرات الديمغرافية والجغرافية والاجتماعية والسياسية المترتبة على قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو1990 والمسؤوليات الداخلية والخارجية المنوطة بدولتها غير أن الأزمة وقد بلغت بالأوضاع حداً يهدد مصير الوطن ويضع مستقبله في نطاق المجهول، تستدعي من الحزب الاشتراكي اليمني أن يدرك من جديد مسؤولياته التاريخية تجاه ما قد يحدث وتحتم عليه التضحية من جديد ولو عن طريق القيام بجملة من الاجراءات والأفعال العملية التي مهما انطوت على قدر من المغامرة المحسوبة فإن مردودها على المدى البعيد سيكون في مستوى انقاذ الوطن.