كتابات

الانسحاب من الهّويَة

الثوري – كتابات

أحمد سعيد الشرجبي:

يقول ابن خلدون في مقدمته: «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والمتفيقهون.. والمتسيّسون؛ والانتهازيون.. وتتكشف الأقنعة؛ ويختلط الصدق بالكذب؛ وعندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف؛ ويظهر الانتماء الى القبيلة أشد التصاقاً، والى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان.. ويتحول الوطن الى محطة سفر».

ففي لحظات ضعف ووهن الدول تظهر جماعات الانسحاب والصمت والاختزال، أبرز صورها في مسميات الهوشمة والإخونة والسلفنة والجنوب العربي، الجماعات الشاذه دائما تعبر عن نفسها بتحدي فاقع وطريقة وقحة لا حياء فيها ولا خجل وفي نظرة متأنية للتاريخ نلحظ مدى انزعاج تيارات التأسلم مع كل لحظة مد وتوهج للتاريخ بل وصل بها العبط والخبل أن تنزعج وتقلق مع اي دعوة للاحتفاء والتمجيد لاي رمزية تاريخية سبقت الاسلام فترى فيه جاهلية ونوع من الكفر وأن الإسلام يجُبٌِ ما قبله، لذلك فإن جماعة الإخوان كان موقفها الحقيقي من الجمهورية منذ البداية بأنها جاهلية، قالها علنا الشيخ عبد الله العديني وهو الأكثر صدقا ووضوحا في التعبير عن فكر جماعة الإخوان، والعديني لا يخجل ولا يستحي في الجهر في معاداة الثورة رغم أنه أحد أعضاء مجلس النواب التي صنعته الثورة والجمهورية، أما الحوثيون فلديهم ثأر تاريخي مع الثورة والجمهورية والتاريخ، فلقد رأينا إلى أي مدى تزعجهم وتقلقهم تلك الخرقة المهترئة المعلقة علي الأعمدة والجدران واعني هنا علم الجمهورية اليمنية، أما جماعة الجنوب (العربي) فقد قالوها صراحة نحن لسنا يمنيين ولأنهم لا يفقهون التاريخ والجغرافيا، نقول لهم من اليمن أتى العرب، ورغم حالة الانسحاب من الهوية أو محاولات اختزالها من قبل قوى التأسلم بكل تنوعها المذهبي والصمت المريب لقوى اليسار المحنط والخامد بكل تنوعه.

رغم اللحظة التاريخية الحرجة يقف الشعب اليمني وخاصة الجيل الشاب ملتصقا وملتحما بهويته وهذا هو الأمل والذي بالتأكيد بالتأكيد سيصنع فجراً جديداً ويعيد الاعتبار للتاريخ والجغرافيا، ولن يكون هناك مقاماً لجماعات الانسحاب أو الصمت أو الاختزال.

اليوم هناك جيل عشريني أكثر وعياً وفهماً وادراكاً لمعنى الهوية والانتماء أكثر من اليسار المتجمد عند الظروف لم تنضج بعد، هذا الجيل العشريني هو ذاك الجيل الذي ملأ شوارع صنعاء وكل مدن اليمن رافعا علم جمهوريته احتفاء بثورة سبتمبر المجيدة، هذا الجيل العشريني هو ذاته الذي يحتفي اليوم بذكرى 22 يناير يوم الوعل اليمني وإحيائه كرمزية تاريخية لليمن، لو سألت أحد المحنطين عن هذا اليوم لن يجيب لأنه لم يقرأ ولا يعرف تاريخه، هذا جيل متوهج لا يعرف الانحناء ولا الانكسار ولا التموضع ولا الظروف لم تنضج بعد، جيل مؤمنا بهويته وانتمائه لذلك هو دوما يحاول لملمة شتات بلده بهذه الرمزية مع كل حالة وهن وانكسار.

اليوم عندما يضع الكثير من الجيل الشاب صور الوعل اليمني على صفحاتهم في مواقع التواصل علينا أن ندرك ونعي أن هناك حقيقة واحدة لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها وهي عمق التجذر وكثافة الانتماء والوعي بعظمة التاريخ وقيمته، كان أبرز صُناع ثورة سبتمبر هو الشاب علي عبد المغني وكان أبرز من حمى هذه الثورة هو الشاب عبد الرقيب عبد الوهاب، سبتمبر هو تعبير كثيف الصدق على تراكم التاريخ والحضارة الممتدة لأكثر من 7000 سنة، في لحظة المخاض الحرجة لابد أن يولد جيل يقلب الموازين لصالح التاريخ والجغرافيا، جيل يشبه جيل علي عبدالمغني وعبدالرقيب عبدالوهاب والحمدي وسالمين.

الشهيد جمال جميل وهو يواجه لحظة الإعدام قالها مدوية (حبلنها وسوف تلد) وكان يعني علي عبد المغني ورفاقه.

وفي كل مرحلة تاريخية كانت الهوية تتقد وتعلو وترتفع ثم تخفت قليلا وكانت حركة 13 يونيو 1974 هي اعلى مراحل التوهج والاتقاد والارتفاع وهذا أزعج جارة السوء الدائم وأعطت إشارة الضوء الأخضر لوكلائها في اللجنة السعودية الخاصة بضرورة إخماد وهج حركة يونيو، وكان أبرز عنوان لها هو اغتيال طيب الذكر الشهيد ابراهيم الحمدي بتلك الطريقة الوقحة في العام 1977 قبل يوم من مغادرته صنعاء تجاه عدن لمقابلة الشهيد سالمين لإعلان الوحدة.

كان الحماس الذي رافق مرحلة الحمدي وسالمين هو أعلى درجات الانتماء والالتحام بالهوية اليمنية، ورغم كل المحن والتآمر ومحاولات الانسحاب من الهوية أو اختزالها.

ظل الشعب مؤمناً وممسكا بها رغم انحراف النخبة والسلطة. كانت ثورة فبراير (الشبابية) في العام 2011 أمتدادا لتلك الصورة المشرفة والمعبرة عن الانتماء للهوية وللتاريخ، هكذا يتوارث الأجيال مقولة الشهيد جمال جميل، لكن مع كل لحظة وهج وأمل تظهر رؤوس الثعابين، وأعني تلك القوى المتخلفة التى قالت عن سبتمبر أنها ثورة جاهلية، عادت تلك القوي فسرقت حلم فبراير واخمدت الأمل، وكانت النتيجة هذه النكسة التي نعيشها، نكسة الانسحاب والاختزال، لكن بإيمان شديد اقول سوف نعبر النهر وصولا للضفة ونعلن فجرا جديدا ومتوهجا.

فصورة علي عبدالمغني وعبدالرقيب والحمدي وسالمين تأبى مغادرة القلوب والافئدة. فمن وسط ظلام العتمة ينبعث شعاع الأمل، فلا انسحاب ولا اختزال.

وللمحنطين أقول خليكم على الأرائك متكئين في الرياض ودبي والقاهرة، يقيناً سوف تنضج الظروف قريبا.

زر الذهاب إلى الأعلى