قضية التعليم في فكر الدكتور أبوبكر السقاف
عيبان محمد السامعي
يعد النظام التعليمي من أخطر النظم الاجتماعية نظراً للدور الوظيفي الذي يضطلع به، يقول أحد الفلاسفة إن «التعليم يحرس البلاد أفضل من جيش منظم». ويقول آخر: «إن التعليم هو جواز سفر إلى المستقبل». والتعليم ليس ترفاً، وإنما هو حاجة من حاجات الحياة، وضرورة من ضروراتها، إنه كالماء والهواء والطعام كما يقول عميد الأدب العربي طه حسين. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي يحتلها التعليم إلا أنه لا يحظَ بالاهتمام الكافي والنقاش العام.
إن سؤال التعليم لا يزال معلقاً منذ أكثر من قرن، منذ أن أطلق المفكر المصري سلامة موسى سؤاله الإشكالي الذائع الصيت: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ منذ ذلك الحين وحتى اليوم لا تزال المحاولات عاجزة عن تقديم إجابة ناجعة لسؤال التعليم.. ذلك أن السبب يكمن في أن تلك المحاولات تتعاطى مع التعليم كمسألة جزئية أو تقنية مجردة ومعزولة عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. قال أحد علماء الاجتماع العرب: «إن التعليم أخطر من أن يترك للتربويين وحدهم، مثلما إن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم». كثيرة هي قضايا وإشكالات التعليم، لاسيما في واقعنا اليمني، ومن الصعب تناولها جميعاً أو فُرادى في مساحة محدودة أو بتناولٍ عابر. ومع الإقرار المسبق بأن الأمر يتطلب وجود مؤسسات بحثية تُسخَّر لها الإمكانات اللازمة والدعم اللا محدود لكي تنتج دراسات ومقاربات لمعالجة إشكالات التعليم، باعتبار ذلك يمثل إحدى أبرز المهام الوطنية الاستراتيجية للخروج من ما يسميه مفكرنا الكبير د. أبوبكر السقاف «رقدة العدم» إلى النهوض الحضاري. تهدف هذه الورقة المتواضعة إلى تسليط بعض الأضواء على مقاربات المفكر الكبير الدكتور أبو بكر السقاف حول قضية التعليم وتفريعاتها. يمكن القول – ابتداءً – إن قضية التعليم تمثل لدى مفكرنا د. أبوبكر السقاف همّاً فكرياً وقلقاً معرفياً لازمه طيلة حياته الفكرية، وهو ما يتجلى في ثنايا مؤلفاته القديمة والجديدة. ويربط د. السقاف بين التعليم وكل القضايا الكبرى والمصيرية؛ كالحرية، والديمقراطية، والنهضة، والتقدم، وارتياد المستقبل، وبناء الدولة المدنية…إلخ. ويرى إن أزمة النظام التعليمي إنما هي انعكاس لأزمة البنية السياسية والاجتماعية القائمة، وإن معالجة أزمة التعليم مرتبطة بحصول تغيير سياسي جوهري وحاسم.
فلسفة النظام التعليمي في اليمن
يرى د. أبو بكر السقاف بأن فلسفة النظام التعليمي في الأقطار العربية – وفي مقدمة ذلك اليمن – تقوم على الأسس التالية: • تمجيد الماضي وإضفاء طابع القداسة عليه، على حساب الاهتمام بالمستقبل. • ترتكز على وسائل التلقين والحفظ والترديد وليس على التفكير والتحليل والحس النقدي، حيث يتم حشو أدمغة الطلاب، في اثنتي عشرة سنة (من المراحل الابتدائية إلى الثانوية) بمعلومات، والطالب ينسى في كل سنة ما تعلمه في السنة التي سبقتها. ولا يتخرج إلا وهو لا يعرف إلا مبادئ القراءة والكتابة والحساب ونتفاً من المعلومات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الجهل الوظائفي (Functional literacy) (خلدون النقيب، 1997، ص291) إن هذا النمط من التعليم يطلق عليه باولو فريري في كتابه تعليم المقهورين بالتعليم البنكي الذي يهدف إلى تعويد الطلبة على أسلوب التذكر الميكانيكي وتحويلهم إلى أواني فارغة تتلقى كل ما يصب في داخلها، فيصبح الواقع في نظرهم مسلمة من المسلمات لا موضوعاً للتغيير. • تدعم قيم الامتثال والتقليد وتحارب قيم الابتكار والتفرد والإبداع. • تساهم في ترسيخ علاقات القهر والتسلط وتناهض الاستقلالية وتعطل حاسة النقد تعطيلاً كاملاً. • تشجع الاستبداد والخنوع والسلبية وليس على المشاركة الديمقراطية والمبادرة. • تمجد الحصول على الشهادات، والاعتماد على الوظائف الحكومية، ولا تشجع على التعليم والاعتماد على النفس. إن النظام التعليمي يعمل على إعادة إنتاج التخلف والجمود ويكرس قيم التسلط، وفي المقابل تضمر كل الآفاق بتردي الإبداع والنقد، والفكر أو الفلسفة النقدية، وتتراكم أسوار المحرمات والتابوهات، وتتسيد قيم الطاعة والامتثال والرضوخ. ولذا ليس مصادفة – كما يقول السقاف – أن يكون التلقين وهو أساس فكرة الطاعة سمة ملازمة للتعليم من الكُتّاب (المعلامة)حتى الجامعة، وخلو مناهج ومقررات التدريس من أية قيمة وتربية جمالية ومن هامش للتفكير الحر وممارسة الحرية، فمؤسسات التعليم مراكز للتدجين والترويض وصوغ ذهنية ونفسية العبد والأَمَّة. إذن يشكّل النظام التعليمي أداة من أدوات الهيمنة وتكريس العلاقات التسلطية، وهذا الكلام يتفق مع ما ذهب إليه بعض علماء الاجتماع، إذ يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن «أي نشاط تربوي هو موضوعياً نوع من العنف الرمزي، وذلك بوصفه قوة تفرض من قبل جهة اجتماعية معينة». (بورديو، 1994، ص7) إن النظام التعليمي يعمل على إعداد أجيال تتقبل الواقع، أجيال عاجزة عن ابتداع وسائل ابتكارية لمواجهة أزمات الواقع، أجيال تدجن وتطوع من أجل تأمين شروط استمرار الطبقة المسيطرة والقيم التقليدية، وبالتالي استمرار أوضاع الاستبداد والتخلف الشامل.
أزمة التعليم الجامعي
يُوصِّف د. أبو بكر السقاف أزمة التعليم الجامعي بالقول: «أزعم أن التعليم العالي عندنا يكاد يكون استمراراً كمياً للتعليم العام، وسبب ذلك تدني التعليم العام وسوء استخدام الإمكانات المتاحة وعدم قدرة الجامعة على الإسهام في ترشيد التعليم العام، كما تفعل جامعات كثيرة..». ويرى الدكتور السقاف أن الجامعة لا ينبغي أن تقتصر وظيفتها على «تخريج موظفين»، ولا شك أن هذا جزء من وظيفة الجامعة، ولكن الوظيفة الأخرى والخطيرة وهي أن يتخرج منها نخبة مُفكِّرة في مختلف حقول المعرفة وهذا الشرط الأساس لمنحها صفة الجامعة. فالجامعة هي عقل الأمة، ومصنع المعرفة العلمية، ومشعل التنوير ومسرج العقلانية، وهي بؤرة للبحث العلمي، ومنطلق للتعبير الثقافي الوطني، وخميرة للتغيير. هذا ما يفترض أن تكون عليه الجامعة، ولكن الواقع يعطي صورة معاكسة بل قاتمة لذلك. إن جامعاتنا أصبحت مغتربة عن وظيفتها الاجتماعية والعلمية والتنويرية، فهي تُخرِّج أنصاف متعلمين، ولا تؤدي دوراً فعلياً في البحث العلمي، ناهيك عن القيام بدورها في خدمة وتنمية المجتمع. إن من مظاهر أزمة التعليم الجامعي وفقاً للسقاف أن «جامعاتنا العربية تُدرّس تاريخ العلوم لا العلوم كما هي مستقرة اليوم في عالمنا، ومن هنا فهناك عشرات من التخصصات الدقيقة في العلوم الطبيعية والإنسانية لا مكان لها في جامعاتنا». ويرى السقاف أن «غياب التخطيط هو أساس كل المشاكل التي يعاني منها التعليم العالي. ومن أخطر مظاهره الإصرار على عدم ربط التعليم بخطة التنمية وحاجات البلاد ومن نتائجه تضخم بعض الكليات إلى درجة مفزعة، أخلت منذ سنوات بكل النسب المطلوبة بين عدد الطلاب وعدد أعضاء هيئة التدريس، وأصبحت مهمتها تخريج عاطلين عن العمل بشهادات وذوي مستوى علمي رديء.
استقلالية الجامعة
يشدد الدكتور أبو بكر السقاف كثيراً على مسألة استقلالية الجامعة لما لها من أهمية حاسمة ليس فقط في تطوير التعليم الجامعي والبحث العلمي بل في تنمية الوعي السياسي والديمقراطي في أوساط المجتمع بصفة عامة. يتساءل السقاف باستنكار: إلى متى ستظل الجامعة بمنأى عن رياح التطور في اليمن؟ إذا كان التعدد الحزبي يكاد يقوم على قدميه فإن أوطد أسسه التعدد الفكري في مناخ حر لا يعرف سقفاً للعقل إلا العقل. ويضيف بالقول: إن الجامعة أهم حلقات المجتمع المدني، الذي لا يقوم ويستقيم بدونه مجتمع سياسي، وهي مدرسة يومية يتعلم فيها الأساتذة قبل غيرهم أبجديات الديمقراطية والحوار واحترام آراء الآخرين، والكف عن وهم احتكار الحقيقة أو الحكمة، ولا يتأتى ذلك إلا إذا مارسوا بأنفسهم حرية اختيار نقابتهم ورئيس جامعتهم وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام. ويقول أيضاً: «إن استقلال الجامعة يبدأ من الانتخاب الحر لرئيس الجامعة والعمداء ورؤساء الأقسام، ولذا فإن مطلب المطالب وبداية البدايات هو الإصرار على قانون جديد للجامعات يؤكد ويقرر هذا الحق الأساسي لأعضاء هيئة التدريس». إن أخطر ما في التعيين على كل المستويات – وفقاً للسقاف – عدم الشعور بالارتباط بالوسط العلمي الجامعي، والاستقلال نسبياً عن هذا الوسط والشعور بأن البقاء في الوظيفة والمنصب لا علاقة له بطبيعة ومستوى الأداء العلمي والعملي في الجامعة، ومن ثم ظهور التكتلات الصغيرة وأساليب المحاباة والنفاق الوظيفيين، وارتباط القرارات الهامة على كل المستويات بالمزاج والطبع الشخصيين. هل يمكن أن يتنفس التفكير العلمي ولا أقول الإنتاج العلمي في مثل هذا المناخ؟؟ لقد أصبحت محاطة بالأسلاك الشائكة، ومحروسة بأمن الجامعة، ويمارس فيها جهاز الأمن سلطة خفية في بعض الأحيان، وسلطة صريحة ومكشوفة في أحيانٍ أخرى، بل تم عسكرتها وملشنتها. لهذا أصبحت جامعاتنا وسط طارد للبحث العلمي، وتمثل قيد على حرية البحث العلمي بدلاً من أن تكون العكس، كما يفترض بها، أي أن تكون سيدة نفسها، وفضاء مفتوح للتفكير الحر، ومناخ الاختلاف الصحي حيث العقل لا يخاف ولا يؤمر، بل عليه أن يغامر ويكتشف، وعندئذٍ فقط يتحرر حقاً ويصبح قادراً على التحرير..!
الانفاق على التعليم
يربط د. أبو بكر السقاف مسألة الانفاق على التعليم بطبيعة السياسات التي تنتهجها الأنظمة القمعية في الأقطار العربية، إذ يقول: إن الإنفاق على التعليم في المجتمعات العربية يهدف إلى تنظيم القمع في المقام الأول، وفصل التعليم عن المجتمع وربطه بجهاز الحكم ليس إلا أحد جوانب إستراتيجية القمع الشاملة. ومالكو الأنظمة يعلمون أن رسالة التعليم التحريرية أخطر عليهم من أية قوة أخرى، فأصبحت المدارس والجامعات سجوناً للتدجين والقمع وتزييف الوعي وصنع الطاعة، وهم يعرفون أن تحرير التعليم هو المقدمة الكبرى لتحرير المجال السياسي ومجال المجتمع المدني من أغلالهما. لذلك تعمد الأنظمة القمعية إلى تخصيص نسب ضئيلة وتافهة من ميزانية الدولة للإنفاق على قطاع التعليم والبحث العلمي، في الوقت الذي تخصص فيه نسب مهولة من الميزانية لرئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية ومصلحة شؤون القبائل …إلخ.
خصخصة التعليم
يرى د. السقاف إن المدارس والجامعات الأهلية لا تكتفي بتكرار أخطاء المدارس والجامعات الرسمية بل تضيف خطاياها المدمرة. فإذا كانت الرسمية قد اقتربت من إلغاء مجانية التعليم بما تفرضه من رسوم وتخليها عن تقديم الكتب في الجامعات والمدارس للطالبات والطلاب، فإن الأهلية قد جعلتهم جزءاً من سوق العرض والطلب، أي جعلته سلعة خاضع لمنطق السوق بدلاً من أن يكون كما يفترض خدمة اجتماعية ورسالة سامية. ولأن هدف المدارس والجامعات الأهلية هو الربح في أكثر أشكاله بدائية، فإنها قد عملت على تدمير التعليم وإهدار وظيفته الاجتماعية وقيمته الرمزية. نحو تعليم تحرري ديمقراطي نوعي ومجاني: أزمة التعليم أزمة بنيوية مركبة ومتعددة الأبعاد، ولمواجهة هذه الأزمة يتطلب الأمر، أولاً وقبل كل شيء، تحرير هذه القضية من الأطر الرسمية والأروقة النخبوية وتحويلها إلى قضية رأي عام، وتحويلها إلى قضية رأي عام، إلى قضية نضالية شعبية عامة. لذا ينبغي تشكيل لجنة شعبية تناضل من أجل تحقيق تعليم تحرري ديمقراطي نوعي ومجاني. ونقصد بتعليم تحرري، أي أن يكون طريقاً للحرية، ووسيلة للثورة على الظلم، ولتمكين المقهورين من مقدراتهم كما ذهب إلى ذلك باولو فريري. ونقصد بتعليم ديمقراطي، أي أن يكون متاحاً للجميع على قدم المساواة، وأن يقوم على أساس تكافؤ الفرص، ويقوم على فلسفة تعليمية أساسها سيادة العقلية العلمية النقدية، المتحررة من الأصنام الذهنية والقوالب الجامدة، وثقافة الثوابت والانشداد إلى الماضي، عقلية مشبعة بروح التغيير. ونقصد بتعليم نوعي، أي تعليم ذو جودة عالية، يرتكز على حقائق العصر، ويواكب مستجدات الثورة المعلوماتية، ويؤدي وظيفة تنموية وإنتاجية. وأما أن يكون التعليم مجانياً، فهذا حق دستوري لكل مواطن وواجب من واجبات الدولة تجاه مواطنيها. استند الباحث على المراجع التالية:
• أبوبكر السقاف، دفاعاً عن الحرية والإنسان، إعداد: منصور هائل، صنعاء، منتدى الجاوي الثقافي، 2011.
• أبوبكر السقاف، آفاق فكرية وسياسية يمنية، صنعاء، منتدى الجاوي الثقافي، 2023.
• بورديو، العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ت: نظير جاهل، الدار البيضاء – بيروت، المركز العربي الثقافي، 1994.
• خلدون النقيب، في البدء كان الصراع: جدل الدين والإثنية، الأمة والطبقة، عند العرب، بيروت، دار الساقي، 1997.
– جزء من نص ورقة عمل قُدمت للندوة الاحتفائية بذكرى الجاوي والسقاف، مدينة تعز، 30 ديسمبر 2023.