على مشارف نظام دولي جديد
الثوري – كتابات
ياسين الزكري:
للوهلة الأولى يبدو للمرء أن مسمى «النظام الدولي» يقصد به ذلك النظام الذي يكفل مصالح الدول وحقوق الشعوب عبر العالم. غير أن التوقف قليلاً أمام تلك التسمية الجذابة قد يقودنا الى تذكر المثل القائل «ليس كل ما يلمع ذهباً».
يقصد بـ النظام مجموعة من القواعد والمعايير والاعراف التي تحكم العلاقات. أما ماتعنية تسمية «النظام الدولي» فهو محدد بدقة اكبر «مجموعة القواعد والمعايير والاعراف التي تحكم العلاقات بين الجهات الفاعلة في البيئة الدولية» هذا لا يعني كل دول العالم ولا نصفها ولا حتى ربعها.
ويتم بناء النظام من خلال مجموعة من الترتيبات الحاكمة التي تشمل قواعد ومبادئ واعراف تلك الدول من خلال عدد من الآليات التي بينها التحالفات والمنظمات (رسمية وخاصة) والقواعد والمتطلبات والمعايير الطارئة والمدروسة.
هذا يعني ان النظام الدولي لا يعني محصلة انظمة الدول المستقلة بقدر ما يعني ذلك الاطار أو الصيغة التي تلتقي عليها دول بعينها للتحكم في مقدرات وتوجهات وقرارات دول الأخرى. أما حين ترتبط مجموعة من الدول بمصالح وقيم مشتركة فإن ذلك يعرف بالمجتمع الدولي أو المجموعة الدولية.
كلا المفهومين إذاً لا يعنيان أن الجميع في ذات الغرفة بل تلك الدول ذات القيم المشتركة. والسؤال كيف نشأ مايعرف بنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ما يزال يتحكم في ارادة العالم حتى اليوم. للدفاع عن مصالحها العالمية تسعى الولايات المتحدة الامريكية منذ العام 1945 الى انشاء مؤسسات اقتصادية دولية، ومنظمات أمنية إقليمية، ومعايير سياسية ليبرالية لغرض تدعيم مايعرف بالنظام الليبرالي الدولي.
وتقوم فكرة النظام الليبرالي على مكونات ثلاث, تتمثل في: الترويج للديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان ومكافحة الابادة الجماعية. وهي ذات الاوراق التي تدير الولايات المتحدة من خلالها سلوك الدول الأخرى خدمة للمصالح الامريكية.
تعرف المكونات الثلاث تلك بالقيم «الدولية» المشتركة وهذا يجعل بقعة التركيز تتقلص اكثر على وجه الخريطة العالمية. تربط القيم الثلاث بشكل وثيق الولايات المتحدة بدول أوروبا الغربية وفقاً لمشروع مارشال الذي انشأته الولايات المتحدة الامريكية لاعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية رابطة الاقتصاد الاوروبي بالامريكي. غير ان الصورة ما تزال واسعة.
يمكن لفك شفرة التضليل الاعلامي المعزز بشكل مستمر ان تركز الضوء على مساحة اكثر واقعية لمفهوم النظام الدولي الليبرالي. الحديث عن التحالف الدولي في زمن الحروب الامريكية يعني بالتحديد الولايات المتحدة وبريطانيا كرأس حربة ضاربة في حين ياتي لاحقاً دور فرنسا والمانيا واليابان كمتعهدي لوجستيات، ما يكشف بوضوح اكثر عن ما يعرف بالدول الفاعلة في البيئة الدولية وفقا لمفهوم النظام الدولي الليبرالي.
والسؤال اين تقع دول أخرى كالصين وروسيا وغيرها من مساحة الملعب الدولي وهنا تكمن ازمة النظام الليبرالي الدولي. وللتوضيح اكثر فإن المخاطر التي تهدد مايعرف بالنظام الليبرالي الدولي تتركز في مسارات ثلاثة: رؤية بعض الدول الرائدة ان مكونات النظام مصممة لتقييد قوتهاوالحفاظ على ديمومة الهيمنة الامريكية،.التقلب نتيجة انهيار الدول أو الازمات الاقتصادية، وتغير السياسات المحلية في عصر النمو البطيء واتساع فجوة التفاوت، وثلاثتها متوفرة في الوقت الحالي.
أن تعمل المخاطر الثلاث في آن يعني ببساطة ان يتم عكس اتجاه الضغوط نحو الداخل. تمثل الديمقراطية وحقوق الانسان ومحاربة الابادة الجماعية اوراق الضغط الاكثر مرونة أو القوة الامريكية الناعمة للتحكم في سلوك الدول محمية بالقوة العسكرية التي تمثل راس الهيمنة الامريكية وفقا لنظرية الرعب التي نشأت بعد اطلاق قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولأن الظواهر تتلاشى في مراكزها فمن الطبيعي ان تظل دول النظام الليبرالي الدولي ديمقراطية وحقوقية وعادلة حتى حين توقف الراي الأخر كما حدث في مواجهة روسيا تزامنا مع الحرب على اوكرانيا والصمت ازاء جرائم الإبادة في فلسطين واستخدام الغذاء والدواء كسلاح ضد المدنيين في ذات الحرب القائمة ضد الفلسطينيين.
اليوم تمثل الصين وروسيا وتركيا والهند والبرازيل تلك الدول الرائدة التي لم يعد بمقدور النظام الليبرالي ترويضها كما كان يحدث خلال العقود السابقة.
خلال تلك العقود ظل السؤال المحوري كيف يمكنك الاستمرار اذا كنت خارج دائرة الشراكة مع «النظام الدولي» غير ان الحرب الروسية الاوكرانية قدمت الاجابة.
استخدم النظام الليبرالي الدولي كل اوراقه الممكنة للقول لروسيا ان التغريد خارج السرب يعني الانهيار التام لكن ذلك لم يحدث. ما حدث هو قول روسيا بان التغريد خارج السرب أمر ممكن وهذه تجربة ناجحة يمكن لآخرين القيام بها ايضاً. لقد تم انشاء سابقة يمكن البناء عليها الآن.
والسؤال لماذا تذهب روسيا بمعية الصين صوب انشاء عالم متعدد الاقطاب وليس ثنائي الاقطاب. يقوم الفكر الامبراطوري الامريكي على فكرة ضرورة وجود عدو لكن ليس اعداء. ذلك أن نقطة الضعف الاشد في تركيبة النظام الليبرالي الدولي هو قيام عالم متعدد الاقطاب بحسب RAND وهي مؤسسة بحثية غير ربحية تعمل في اتجاه ايجاد حلول لتحديات السياسات العامة.
سبب تزامن الحربين في اوكرانيا وفلسطين وردود الفعل ازاء كل منهما وجود شاشتين متزامنتين للمقارنة تعطلت معها ادوات النظام الليبرالي المتمثلة في الأمم المتحدة وادواتها حيث شمل الشلل التام كافة المؤسسات التابعة للمنظمة الدولية او بتعبير اخر الادوات الامريكية للتاثير.
يضاف إليها ادوات التعبير «الحر» المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي التي انكشفت عملية تسيسها لتنسحب اليها ازمة ذات النظام.
لم يعد بمقدور مكياج الاخلاق تجميل وجه السياسة داخل ذلك النظام ولم تعد القوة العسكرية التقليدية الى حد مؤثر قادرة على الحسم في ظل جديد التقنيات وتوزع السلطة والقوة خارج دائرة السيطرة.
عكس اتجاه الضغوط يتجه الآن من خارج طنجرة الضغط الى داخلها وذلك هو التحدي الاكثر خطورة على نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية والبداية من تحول الولايات المتحدة نحو العزلة لأول مرة منذ العام 1945 بعد الفيتو الاخير ضد وقف اطلاق النار في غزة الى جانب عوامل اخرى كثيرة بينها وضوح ازدواجية المعايير بشكل سافر وانكشاف تبعية الحكومات الاوروبية الفاعلة لشعوبها وسقوط دلالات تعبير الشراكة الذي ظل يطرح خلال العقود الفائتة واستمرار سحب البساط من تحت الدولار كعملة عالمية.