ثقافة

تشييع باهت.. جحود ونكران مؤلم رحيل أحمد الجابري معتكف صومعة الغناء اليمني

الثوري – ثقافة/

كتب/ عارف السامعي:

توفي صباح السبت 6 يناير، في صنعاء، الشاعر الغنائي أحمد الجابري، إثر إصابته بجلطة دماغية بعد معاناة طويلة مع المرض، وخذلان دام سنوات، عانى خلالها الكثير من النكران وعدم الاهتمام، رافقها عدم اكتراث من جهات الاختصاص المنشغلة بالحرب دون أن تشفع له المكتبة الغنائية الزاخرة بعشرات الأعمال التي شكلت جزءاً مهماً من هوية ولون الأغنية التي عبر لحنها جبال اليمن.

 «طائر الأشجان.. ما يشجيك في تيك الربى، من لوعك؟»، بهذا التساؤل المرير يغادر الشاعر الغنائي أحمد الجابري (87 سنة) الحياة بلحن وداعي محزون، وكلمات تعبر عن النهاية التراجيدية للمبدع في آخر أيامه التي كثيراً ما سقى أجملها بقصائده التي تشبه «الطير الأخضر» المسافر إلى ما وراء الحدود.

وحسب مصادر مقربة من الفقيد صاحب أشهر روائعه «لمن كل هذي القناديل؟» فإنه كان قد استقر الفترة الأخيرة في مدينة صنعاء ليكون قريباً من الأطباء لمتابعة حالته الصحية بعد أن تلقى العلاج في وقت سابق في القاهرة وعمان.

في أغسطس (آب) الماضي انتقل إلى القاهرة للعلاج على نفقة حكومة البلاد بعد تدهور وضعه الصحي ومناشدات أطلقها الناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يرحل آخر المرهفين فتصير القصيدة يتيمة، والشعر حزين. يودعنا في هذا الزمن «الغصة» الشاعر العبقري أحمد الجابري، مضيفاً إلى حرب هذا الوطن وهزائمه هزيمة جديدة.

لقد كان شاعراً (إستثنائياً) من فصيلة نادرة يتنفس الشعر وتجري بحوره وقوافيه في خلاياه الدموية.

رحل الشاعر أحمد غالب الجابري عن عمر ناهز الـ(87 سنة)، أمضى جلها في محراب الشعر العامي، وقدّم من خلاله الروائع الغنائية الوطنية والعاطفية وغيرها، واحتفى بالوطن والطبيعة والحب والجمال بمستوى صارت كلماته ايقونات سمعية تتردد على امتداد اليمن.

كتب الشعر الغنائي الوطني والعاطفي بعدد من اللهجات المحلية، وتعاملت مع أعماله أصوات غنائية من مختلف ألوان الغناء اليمني، في دلالة على خصوصيته وتفرد تجربته في علاقتها بالثقافة الجمعية للبلد.

أبرز قصائده

من أبرز الأغاني التي تعكس عبقرية الشاعر الجابري، وسافرت في جميع أنحاء اليمن، نقف أمام «لمن كل هذي القناديل» و«طائر الأشجان» و«على أمسيري» و«عاشق الليل» و«ألا يا طير يا لخضر» و«طير أيش بك» و«لا تخجلي» و«ناقش الحنة» و«يا ريت عدن مسير يوم» و«غصب عني» و«خذني معك» و«حساس» و«شبكني الحب بصنارة» و«أخضر جهيش» و«هوى الأيام» و«رجعوني العيون الحلوة ثاني» و«يا غارة الله» و«صباح الخير يا وطني» و«قلبي مع الغيد»..

والقائمة حافلة عامرة بروائع الطود (الجابري).وأغان عديدة كان لها دور فاعل ومؤثر في إثراء العاطفة الوطنية والإنسانية في الوجدان اليمني.

كما تجلى من خلالها الجابري مختلفاً في علاقته الوطنية بالوعي الشعبي؛ إذ استطاع، من خلال الشعر العامي، أن يخاطبه ويرتقي بذائقته، ويسهم في التعريف بتراثه.

يقول الكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني: «لم أجد في تتبعاتي الاستماعية وقراءاتي المتواضعة شاعراً غنائياً في اليمن كتب بمعظم اللهجات اليمنية بميزة وثقافة ووعي الشاعر أحمد الجابري».

وفي كتابه الذي أصدره أخيراً بعنوان «من هنا مر الغناء دافئاً»، يرى الشيباني أن الجابري «هو الوحيد الذي كسر حلقات ثنائية الشاعر والفنان التي ارتبطت في تاريخ الأغنية اليمنية بالتقاربات الوجدانية والثقافية والجغرافية بين كاتب الأغنية والفنان».

لقد شكلت روائعه الغنائية حقبة زمنية مهمة في تاريخ البلاد, غنَّى له العديد من الفنانين اليمنيين شمالاً وجنوباً، ابتداء من أواخر خمسينيات القرن الماضي؛ منذ كان طالباً في جامعة القاهرة، وهي الفترة التكوينية ذاتها لشعراء الأغنية المعروفين (سعيد الشيباني، عبدالله سلام ناجي، وعبده عثمان محمد) حينما كانوا، هم أيضاً، طلاباً في الجامعات المصرية آنذاك. مغامرات معظم شعراء الأغنية في اليمن عموماً لم تتجاوز الحواضن الثقافية بخصوصيتها اللهجوية، التي ينتمون إليها؛ إذ يندر أن تجد شاعراً من كُتاب الأغنية كتب بخصوصيات لهجوية غير تلك التي تطبّع وتربّى عليها في بيئته المحلية.

تعدد لهجاته

وحده الشاعر الجابري حلَّق بعيداً في فضاءات الجغرافية اليمنية، وكتب باللهجات العدنية، واللحجية، والبدوية، والحضرمية، والصنعانية، والتعزية بخصوصيتها الحجرية.

وغنّى له الفنانون «محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم، وأيوب طارش، وعبد الباسط عبسي، ومحمد سعد عبدالله، ونبيهة عزيم، وطه فارع، وبهجة نعمان، وعصام خليدي»، وغيرهم من الفنانين. يعد أحمد الجابري من الشعراء الكبار الذين وشموا على صفحات الشعر الغنائي العامي اليمني بكل لهجاته ومفرداته وتلاوينه، حيث تمتاز قصائده بجزالة وعمق المعنى، ورصانة وقوة المبنى، وسحر البيان، وعذوبة التبيان.

إضافة للقصائد الفصحى التي حملت بين ثناياها قضايا وهموم ومعاناة وطن عشقه حتى الثمالة ترجمها بحرفية وإقتدار وفطنة وأبدع في صياغاتها النحوية والموضوعية الهادفة ذات المحتوى والعبر والدروس والمضامين ساهمت في تغيير وبلورة وعي وذائقة وسلوك وثقافة الأمة.

أتسمت نصوصه الغنائية بمفردتها وتعبيراتها المتفردة الزاخرة الباذخة المفعمة بالصور البلاغيةاللغوية الشعرية والشعورية المتماسكة في تراكيبها وسياقاتها الدرامية المحبوكة بسيناريو مضمخ وثري بالمشاهد واللقطات الجمالية الإبداعية الحسية والدلالية الروحية الرومنسية والإنسانية.

شكلت أغاني الجابري الرائعة تراث في مسار تاريخ الغناء اليمني، وفي الخليج والجزيرة العربية والوطن العربي بصورة عامة.

الحلم الذي أصبح حقيقة

الجابري، الذي قضى معظم حياته في صومعته بمدينة الراهدة، وظل متنقلاً من وقت لآخر بين عدن، وتعز، والقاهرة، والراهدة، لم يتأثر بذلك النسيان والتجاهل والحرمان من قبل المسؤولين والجهات المعنية في الدولة، والمعنيين بدعم المبدعين من أبناء الوطن، والذين أستكثروا عليه -بحسب وصفه – توفير فرصة وظيفية ليعيش من خلالها ويتفرغ للعمل الإبداعي، بل أعتبر أن ذلك التجاهل وذاك النسيان كانا مصدر قوة لإلهامه ودفعه بقوة للسير قدماً نحو المجد ليصبح ذكره مليئ السمع والبصر في عموم اليمن وخارجه بإبداعاته وقصائده الغنائية وأشعاره وأناشيده الوطنية البديعة، التي تغنى بها ورددها كبار الفنانين. يقول في قصيدته «إلى صومعتي الضائعة»:

رحلت عنك إلى صنعاء لا أحد يدري بحالي وما ألقاه من نكد كرهت عيشي فإني رحت لا أجد غير المرارة من ذكراك في خلدي فقدت صومعتي لاشيء يؤنسني من بعد إني غريب الدار في كمد

همومه ومشاكله

يقول الجابري في مقابلة أجراها معه الزميل منصور السروري: «في النصف الثاني من السبعينيات بعدما هربت من عدن خوفاً من أن يكون مصيري مصير أستاذي لطفي جعفر أمان الذي اقتيد إلى السجن حينها، وأيضاً كانت بيني وبين أقارب الوالد مشاكل حول الفرن (المخبز)، والبيت، وأيضاً بيني وبين الزوجة توجد مشاكل، وأثناء مكوثي في الشمال أيضاً وجدت الأقارب قد صادروا كل ما كان لوالدي من أراضٍ وأملاك، ولم يبقوا منه شيئاً، فعبرت عن تلك الهموم والمشاكل بمطلع القصيدة أجلد فيها قلبي حتى يقتنع من ان لا شيء باقٍ معي في هذه الدنيا من أملاك أبي، لا في عدن التي آمموا فيها كل شيء، والباقي أخذه الأقارب، ولا في تعز التي لفلف الأقارب المقيمين في القرية ما كان باقياً لوالدي من حق أبيه دونما رحمة.. فسألت نفسي سؤالاً: لماذا يعاملني أقاربي الذين لا أكن لهم إلَّا كل الحب بمثل هكذا معاملة؟ فلم أجد غير الشعر أبث من خلاله همومي ولواعجي، ووجدت نفسي أكتب المطلع:

ايش معك تتعب مع الأحباب يا قلبي وتتعبنا معك؟

لا الضنى يروي ظمأ روحي ولا الدنيا بعيني توسعك

لا متى شاصبر وانا أجري ورى حبك أطيعك واتبعك؟

أيش بقى لي في الهوى غير الشجن زادي يلوعني معك..

وحتى لا تغدو القصيدة ذات مضمون اجتماعي أو شخصي وجهتها توجيهاً غنائياً مزجت فيها معاناتي مع الأحباب دون استثناء بمن فيهم أم إبني». عاش الجابري في الراهدة التي صارت بمثابة منفى قسري اختياري في منزل متواضع، وليس في دكان، كما تناولت كثير من وسائل الإعلام، وحيداً ما يقارب العشرين سنة، وسط ظروف معيشية وصحية صعبة، ودون أن يتلقّى أي رعاية من السلطات المعنية المتعاقبة، وهو ما عرّض صحته للكثير من المتاعب والمضاعفات في سنواته الأخيرة.

«أضاعوني وهـم أهلي… بـلا بـيـت ولا سـنـدِ

أعيش العمر مغترباً… وحيـد الـدرب في بلـدي

توارى الناس من حولي… ومات الشعر في خلدي

لمن أشكو وهم أهلي… فـمالي بعـد من أحــدِ»

وبعد أن تداول رواد مواقع التواصل هذه الأبيات، وجه رئيس مجلس القيادة الرئاسي في البلاد رشاد العليمي بعلاجه في الخارج، ولكنها استجابة اعتبرها رفقاء دربه وشعره متأخرة، إذ جاءت بعد 10 سنوات من العزلة والوحدة والمرض.

أمنية وحلم، ووصية لم تتحقق

ظلت المتاعب تلازمه حتى في موته، وترافقه إلى قبره، وكأن التعب والقهر والضنى الذي عبر عنه في كثير من أشعاره، ومع ذلك دفن فيه رغم أنه كان قد أوصى بأن يدفن جوار قبر أمه.

الجابري كان يعلم أنه سيُحرم ويُمنع حتى من تحقيق أمنيته في أن يوارى جثمانه بمدينة عدن، حيث يرقد جسد أحب إنسان في الوجود عنده «أمه»، ولم يستطع النزول من الشمال حينها، للمشاركة في تشييعها، لكنه كتب قصيدة قبل عشرون سنة يوصي فيها أن يدفن بجوار أمه.. أمنية وحلم، أبى نجله (كمال) الذي لا يعرفه كثير من الناس إلا أن يحرم والده منه:

 يا خليلي إن دنا الموت مني فادفئاني

بالقُرب من قبر أمي حيثُ كانت ولا تزال

تنادي من ثرى لحدها ومن قبلُ بإسمي

آثرتْ أن تموت والموت حقٌ

وعلى صدرها من الوجد وسمي

كم وددتُ الحياة بالقُرب منها فادفئاني..

فليس لي غير جسمي

رحيل الشاعر الجابري، أثار حزناً واسعاً بين أوساط اليمنيين، حيث تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى صالة عزاء، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، فيما الغالبية أعادوا نشر قصائده على صفحاتهم كبيانات نعي ورثاء.

ونعى عدد من الكتاب والصحفيين والمثقفين الشاعر الراحل، واعتبروا رحيله خسارة كبيرة لليمن، بإعتباره أحد أهم الشعراء الغنائيين على مدى عقود من الزمن، والذي نذر عمره وإبداعه للوطن وأثرى المشهد الأدبي والفني والوطني، بما قدمه من إبداع خالد.

حضور باهت في جنازته

حضورٍ باهتٍ وري جثمان الشاعر الغنائي الكبير، أحمد الجابري، الأحد 7 يناير، الثرى في العاصمة صنعاء، أثار استياءً وصدمة بين أوساط اليمنيين.

عدد وحضور لا يرقى لمستوى مكانة وعظمة ما قدمه الجابري لليمن، فناً وأرضاً وإنساناً، في مسيرة امتدت لثمانية عقود، كانت مليئة بالفن، ونقاء الكلمة، والتعبير الحي المباشر والصافي عن الحب، والوطن، والغربة، والأشجان.

نفر قليل من أصدقاء وجيران، في مراسم دفن جثمان الشاعر الجابري، الذي وحد اليمن بأصوات المطربين من عدن ولحج، وحتى صنعاء وصعدة، كتب للأرض والإنسان بقصائد غنائية بديعة، سافر إلى أرواح اليمنيين إلى عدن وصنعاء والعدين.

يقول الإعلامي خليل القاهري، عن التشييع البسيط، الذي رافق التوديع الأخير للشاعر الجابري: وريَ جثمان الشاعر أحمد الجابري الثرى. تخيلوا هذا مشهد تشييعه، نفر قليل من أصدقاء وجيران، كأنه لم يكتب يوماً، ولم يمجّد بلاداً وشعباً، ولم يكن على علاقة بتلك القصائد والأعمال الإبداعية التي ملأت الأرجاء والأسماع والقلوب في آن، يا الله كم هو مؤلم هذا الجحود والنكران. كأن شعباً لم يسمع يوماً، ونخبةً لم تقرأ أبداً، ذهبت إلى ربك أيها الجابري وستبقى خالدة أبياتك التي منها:

«أضاعوني وهم أهلي.. بلا بيت ولا سندِ/ أعيش العمر مغترباً.. وحيد الدرب في بلدي/ توارى الناس من حولي.. ومات الشعر في خلدي».

غاب الجابري، لكن مزهرياته خالدة في وجدان الناس؛ تسعدهم وتشيع فيهم الفرح والبهجة.. كم هو موجع أن يموت الجابري وهو في فاقة وحاجة، فيما من أنتجتهم الحرب يلعبون بالملايين.

ولد أحمد غالب الجابري في 1936 في (الشويفة – خدير) بمحافظة تعز، بعدها انتقل إلى عدن، وهناك تلقى دراسته الأولية، ومنها خط أول أقدار شعره.

في حقبة كانت تعيش أوج فترتها الذهبية، ترافقت بأعمال إبداعية متنوعة، إذ كتب أكثر من 200 قصيدة وعمل إبداعي.

سافر الجابري عام 1953 إلى القاهرة وأكمل هناك دراسته الثانوية، ثم التحق بجامعة القاهرة كلية التجارة قسم إدارة أعمال، وتخرج منها عام 1966.

عاد الى مدينة عدن وعمل مدرساً في المعهد التجاري، ثم مدرساً للغة العربية والرياضيات في ثانوية الجلاء- أقدم ثانوية في خورمكسر، (حالياً مدرسة محمد عبده غانم)، وتزامل في التدريس مع رفيق دربه الشاعر لطفي جعفر أمان.

بعدها انتقل من الجنوب إلى مدينة تعز 1972، وعمل كموظف في البنك اليمني للإنشاء والتعمير في الجمهورية العربية اليمنية (سابقاً).

غادر الوطن مجبراًً إلى الغربة، عمل مع مجموعة بن محفوظ، وتحديداً في شركة «سدوك القابضة» التي شغل فيها مديراً عاماً لمدة عشرة سنوات.

عاد من المهجر في 1992، وفي عام 1993عين مستشاراً لصحيفة 14 أكتوبر، بدرجة نائب وزير.

في 2020 صدر له مجموعة شعرية بعنوان (عناقيد ملونة)، يحتوى على ستة دواوين شعرية، و207 قصائد، بينها 85 قصيدة غنائية، منها 67 باللهجات الشعبية اليمنية، و18 قصيدة غنائية فصحى.

زر الذهاب إلى الأعلى