شيء من التاريخ..
الثوري – كتابات/
حسين الوادعي:
التوريث الأموي والطالبي
استقر الرأي الشائع على أن خروج الحسين بن علي ضد معاوية ويزيد كان رفضا لمبدأ توريث الحكم.
لكن اللافت هنا أن الخارجين على مشروع التوريث الأموي كانوا أصحاب أول مشروع توريث في الاسلام.
فعلي كان يؤمن بأحقيته في الحكم لقرابته من الرسول، وبعد مقتل علي ورث حسن السلطة عن والده لعدة شهور، ثم بعد ذلك خرج الحسين على الحكم بحجة رفض توريث الحكم من معاويه لابنه يزيد مع أنه الحسين كان يؤمن بأحقيته بالحكم بعد والده!
لم ينجح مشروع التوريث الطالبي في البداية لافتقاره للقوة اللازمة ولعجزه عن فهم حركة التاريخ، وهذا ما نجح فيه المشروع الأموي.
لكن مشروع التوريث الأموي لم يكن بنفس خطورة مشروع التوريث الطالبي.
فقد اختفى بنو أمية من التاريخ بسقوط دولتهم، بينما لا زال مشروع التوريث الطالبي يفجر المجتمعات حتى هذه اللحظة.
زهد علي في المال والسلطة
وبما أن فكرة زهد علي بن أبي طالب في المال والسلطة واسعة الانتشار لنناقشها سريعا.
لنبدأ بالسلطة!
المعارك الثلاث الرئيسية في الفتنة الكبرى هي (الجمل، وصفين ، والنهروان) . ولا أظنها مصادفة أن علي كان الطرف الأول في كل هذه المعارك والباديء بالقتال.
كان الباديء بالقتال في معركة الجمل ولحق بعائشة وبالصحابيين الزبير وطلحة الى البصرة وقتلهما وساهم في سفك دماء مئات المسلمين الذين لم يخرجوا لقتاله وانما طالبوا بالقصاص من قتلة عثمان.
ولم يكن علي قادرا على معاقبة قتلة عثمان لانهم كانوا أساس جيشه وخاضعا لقوتهم.
وكان طلحة الزبير قد تراجعا عن بيعتهما لعلي لأنها بيعة تمت تحت تهديد الثوار من قتلة عثمان، فلما غادرا المدينة أحسا بالأمان لنقض بيعة الإكراه.
وكان علي هو الطرف الأول والباديء في معركة صفين عندما توجه بجيشه نحو الشام لقتال معاوية وإرغامه على القبول بحكمه. ونحن نعرف تفاصيل المعركة التي بالغت بعض رواياتها وتحدثت عن سبعين ألف قتيل.
ولم يكن معاوية في ذلك الوقت طالبا للخلافة، وانما رفض مبايعة علي قبل أن يقتص من قتلة عثمان. وكان يرى ضعف علي في معاقبة القتلة من الثوار مؤشرا على عدم صلاحيته للحكم.
كان علي أيضا الطرف الاول في معركة النهروان ضد الخوارج. والخوارج كانوا في صف علي لكنهم انشقوا عنه بسبب سوء إدارته لمعركة صفين. ولم يكن سهلا أن يتسامح علي مع هذا الانشقاق فقاتلهم وقتل المئات منهم بعد أن رفضوا العودة لصفه.
يتفق كل المؤرخين على ان الفتنة الكبرى كانت أسوأ ما مر بالاسلام الأول من تحديات واكثرها دموية. لكنهم ، تحت دافع التشبع العاطفي والسياسي، تغاضوا عن شهوة السلطة عند علي التي قادت معارك الفتنة الكبرى. ولو أقر علي بعدم صلاحيته للحكم، وترك الامر شورى لاختيار خليفة قوي لا يكون مرتهناً للثوار من قتلة عثمان ,لكان لتاريخ الاسلام مسار آخر.
هل علي هو الخليفة الرابع؟
يؤمن السنة والشيعة معا أن عليا رابع الخلفاء الراشدين ويذهب حتى بعض السنة إلى أنه افضلهم.
لكن قراءة أحداث التاريخ المدون تقول إن علي لم يكن أبدا الخليفة الراشد الرابع وأن الخلفاء الراشدين، بالمفاهيم التراثية المعروفة للرشد، كانوا ثلاثة فقط هم ابوبكر وعمر وعثمان..
فقد تم تعيينهم باجماع الارستقراطية القرشية بناء على الأسبقية في الإسلام والوضع القيادي ضمن قريش والتفاني في خدمة الإسلام منذ بدايته. أما علي فلم تجمع عليه الارستقراطية القرشية ورفضه أغلب اهل الشورى المعنيين ب”انتخاب” الخليفة.
قبل وفاته، وصع عمر بن الخطاب نظاما بسيطا لاختيار الخليفة عبر تصويت أهل الشورى الستة: عثمان، علي، طلحه بن عبيدالله، الزبير بن العوام ، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن عوف.
توفي بن عوف في خلافة عثمان ، ولم يبق من أهل الشورى الا أربعة هم علي وسعد وطلحة والزبير. وتجمع أغلب الروايات على أن اهل الشورى الثلاثة المتبقين لم يبايعوا عليا، وبالنالي تسقط عنه صفة الشرعية أو الرشدية.
ولأن طلحة والزبير بابعا بالإكره وسيوف الأشتر وبقية الثوار على اعتاقهم، نقصا بيعتهما ما أن غادرا المدينة وأمنا شر الثوار من قتلة عثمان.
إذا هناك اجماع كامل من اهل الشورى على عدم أهلية علي للحكم.
لم يتم اختيار علي بالشورى، لهذا حاول الوصول الى الحكم بالقتال. وكان مضطرا الى التحالف مع قتلة عثمان لاكتساب شرعية القوة والغلبة بعد ان فقد شرعية الاختيار.
ومما زاد الطين بلة أن علي بعد محاولة استيلائه على الخلافة بالقوة ارتكب خطئين أثارا ضده نخبة الصحابة.
الأول انه رفض محاسبة المتورطين في مقتل عثمان واقامة الحد عليهم مخالفا بذلك حكما شرعيا واضحا.
والثاني انه أقال حكام الولايات الذين عينهم عثمان وولى بدلا عنهم ولاة ولغوا في سرقة المال العام دون ان يحاسبهم أيضا.
..وهذا تأكيد على غياب القدرات القيادية عنده مما جعل كبار الصحابة يبتعدون عنه أيضا.
نخلص من هذا الى أن علي لم يكن الخليفة الرابع، ولم يكن خليفة من الأساس لأنه لم يحكم الا رقعات بسيطة من خارطة دولة الاسلام آنذاك.
أما الخلفاء الراشدون فهم ثلاثة فقط.
والخلافة لم تنقلب الى ملك ، وانما انتهت وتفككت وتحولت الى فوضى، ليلتقط معاوية اللحظة ويؤسس الامبراطورية الاسلامية .
ليس الهدف من كلامي الانتقال من التأليه إلى الشيطنة، وانما المساعدة على تكوين رؤية نقدية لشخصية محورية في الإسلام في الماضي والحاضر…
شخصية مركبة من الخير والشر ظلمتها السرديات بالصورة المثالية المستحيلة في عالم البشر.
التشيع اليساري.. في غفلة من زمن القرن الماضي قرر اليسار العربي قراءة التاريخ الإسلامي قراءة ماركسية.
فقالوا أن الصراع كان بين اليمين واليسار وبين الجماهير الكادحة والمستغلين.
معاوية يمين وعلي يسار. يزيد يمين والحسين يسار. عمار وبلال وخباب جماهير كادحة، وابو بكر وعمر وعثمان ارستقراطية مستغلة.
الأشعرية يمين، والمعتزلة يسار. المرجئة رجعيون، والخوارج يسار ثوري.
توسعت عملية التنبلة اليسارية( تنبلة كلمة فصيحة تعني الكسل والتبلد) لتصب تدريجيا في ساقية التشيع لآل البيت.
وصار علي هو لينين والحسين جيفارا وبقية ائمة خرافة آل البيت طلائع الثورة ونصراء البروليتاريا.
ساهمت التنبلة اليسارية في ترسيخ خرافات التشيع بألوان ماركسية. ووقع مثقفون كبار مثل حسين مروه وحسن حتفي، وأدباء كبار مثل عبد الرحمن الشرقاوي في حفرة التشيع اليساري.
نسي التشبع الماركسي أن علي وأولاده والأرستقراطية الهاشمية كانوا جزءا من الطبقة المسيطرة على السلطة والثروة في الامبراطورية الوليدة. وأن أموالهم وعطاياهم كانت نتاج نهب خيرات واستغلال فقراء البلدان المفتوحة . وأن لينين وجيفارا وتروتسكي آل البيت أثروا من عطاءات بيت المال وغنائم البلدان المفتوحة وتوسعوا في امتلاك المساكن والزوجات والجواري، وأن الصراع بينهم كان صراع الأغنياء ضد الأغنياء.
لكن فيروس التشيع الماركسي انتشر وحول مئات الشعراء والمثقفين والفنانين الى دراويش عند آل البيت. ملحدون لكنهم مؤمنين بالاصطفاء الإلهي لعلي. وثوريون لكنهم مقتنعين بحكم البطنين الثوري البروليتاري.
والأدهى انهم نشروا التشيع حتى بين المسيحيين العرب، وصار لدينا مسيحيون ماركسيون متشوقون لعودة الإمام الغائب أكثر من شوقهم لعودة المسيح.
ضرب فيروس التشيع الماركسي اعدات التفكير عند الناس. وحلت سفينة النجاة محل الحتمية التاريخية، وحديث الكساء محل البيان الشيوعي، وحادثة الغدير محل الثورة البولشفية ، وعنصرية السلالة محل الصراع الطبقي الذي سيقود إلى المجتمع المثالي الذي يركع فيه الكادحون لتقبيل اقدام أبناء الإله.
في صناعة خرافة الولاية
طه حسين، رحمه الله، كان يقول أن “الخلافة” ليست نظام حكم اسلامي لكنها نظام حكم عربي استنسخت التجربة العربية في تعيين شيخ القبيلة اعتمادا على الأصلح وبأصوات “الملأ” أو علية القوم.
والشورى كانت نظاما عربيا/قرشيا معروفا في شكل “ديمقراطية الأغنياء” وحقهم الحصري في انتخاب رئيس القوم.
عندما طالب علي بن ابي طالب والعباس بحقهم في السلطة كانوا في البداية يفكرون في نفس الاطار العربي للحكم لكن ضمن الشكل الوراثي (انتقال الحكم ضمن نفس العائلة). لكن تاريخ قريش الطويل في الشورى جعل حظوظهما ضعيفة.
بعد مصرع علي والحسين كان الحل هو الخروج من التقاليد العربية للحكم (الشورى، الوراثه) إلى التقاليد الدينية “الملك-الإله” التي عرفتها الشعوب الشرقية، وتم اختراع فكرة الإله الذي يوصى بالسلطة إلى عائلة معينة ويصطفيها من بين كل البشر لتحكم نيابة عنه (الغدير).
هذه العائلة نصف بشرية ونصف إلهيه. هي كلمة الله (العترة، قرين القرآن، القرآن الناطق)، الذي هو وحي متحرك، ونصف إله معصوم ومقدس.. وكانت هذه هي فكرة “الإمام، الولي، العلم” عند الشيعة.
في صيغة الملك-الإله (علي، الحسين، آل البيت) الشرط الأول للايمان ليس الإيمان بالله، وانما الإيمان بالإمام ومحبة “الآل”. والهداية ليست مرتبطة بالسلوك الإسلامي الصحيح وانما باتباع “أعلام الهدى” وطاعتهم..
الإسلام في هذه الصيغة هو دين العائلة المقدسة..نصف الإلهية.. طبقة الكهانة الواسعة والممتدة التي تتوسط بين الله وبين البشر وتقودهم نحو الإيمان الصحيح.
الصانع الأول لأسطورة الوصاية الإلهية، حسب الجابري، هو “المختار الثقفي”.
شيخ قبلي طموح سياسيا وذو رؤية ثاقبة لكيفية حشد الناس وتعبئتهم.
وسياسي نفعي يقفز من النقيض للنقيض لتحقيق حلمه.
كان يتحدث للناس مستخدما سجع الكهان وروج لفكرة الوصي والرجعة ووراثة الأئمة للنبوة ومعرفة الإمام بالعلم الخفي والمستقبل وأدعى ان الله يكلمه.
بمهارته في استخدام الرموز،حول عاشوراء من حادث لا قيمة له ولا لشخوصه إلى ذكرى دائمة.
واستوحى فكرة الحاكم الأله من الثقافان الشرقية وأسلمها.
حلل الجابري في “العقل السياسي العربي” كيف أسست حركة المختار الثقفي ل”ميثولوجيا الإمامة” مستخدما خليطا من اليهودية والغنوصية وافكار ديانات فارس القديمة محولا السلطة إلى عقيدة، وآل البيت إلى أنصاف آلهة، وعاشوراء والغدير إلى شماعة للطموح السلطوي.
كان هدف المختار استخدام التشيع وافكار الوصاية والرجعة وسيلة لخدمة طموحه اللامتناهي للسلطة لكنه قُتل قبل ذلك.
واستمرت الفكرة القاتلة متخفية داخل الفقه والشريعة والسياسة.
كوميديا حديث الكساء وتلفيق العائلة المقدسة
عانى أنصار خرافة آل البيت من مسألة تأسيس علي وأولاده وزوجه كعائلة مقدسة.
أحد مصادر المعاناة هو كيف يمكن اعتبار علي وأولاده “آل بيت” الرسول والأقرب إليه بينما زوجاته وبناته الأخريات أقرب له.
وكيف يمكن اعتماد النسب الأمومي بحيث يصبح أبناء علي هم أبناء الرسول وليس أبناء أبي طالب حسب النسب الأبوي المعتمد.
عندما قرأت حديث الكساء قراءة عقلانية لأول مرة وجدته اسكتشا فكاهيا رديء المستوى على شاكلة اسكتشات مضحكي المهرجانات.
ملخص حديث الكساء أن النبي كان في بيت زوجته أم سلمه مع فاطمةَ وعلي والحسن والحسين، وطلب منهم الدخول معه تحت كساء له، ومنع زوجته -اُم سلمة- من الدخول، ثم دعا الله أن يطهّرهم.
الهدف الايديولوجي من الحديث واضح وهو حل معضلة آل محمد المعوجة. ففي كل الثقافات عندما نتحدث عن آل فلان فنحن نقصد زوجته/زوجاته وأولاده.
أما في الاسلام فآل محمد هم زوج ابنته واحدى بناته وأولاده.
هذا الإعوجاج كان لا بد له من حل لا يقل سوءا عنه.
والحل كان اختراع حديث يخرج فيه الرسول كل زوجاته وبناته الأخريات من “آل بيته” ويدخل بدلا عنهم علي وأولاده.
وللمزيد من التوضيح قرر مخترع الحديث ذو الخيال الضحل أن افضل وسيلة لذلك هو أن يختبيء محمد وعلي وفاطمه والحسن والحسين تحت لباس/عباءة، بطانية، ويمنع زوجته من الدخول.. ثم يبلغ الرسول الله/جبريل أن من تحت اللباس/الكساء هم فقط آل بيته.
عمليا من يختبيء تحت الكساء مع الرجل هم زوجاته. ونتيجة الاختباء تحت اللباس/الكساء يأتي الأطفال. ومن النساء والأطفال يتكون آل فلان.
عملية الاختباء الجماعي تحت اللحاف بما فيها من رمزية حسية “فرويدية” لا مجال هنا للتوسع فيها.
فالاختباء داخل الكساء عملية ذات بعد حميمي يختص لها الرجل وزوجته. لكنها هنا تتحول الى فعل حميمي رمزي، ويصبح الدخول تحت الكساء ممارسة سحرية كفيلة بإدخال ما ليس ب”آل” وإخراج ما هو عرفيا واجتماعيا “آل”… كأنها حركة “حمل وإنجاب” سحري مثل حركة “أبراكادبرا” التي يحول الساحر بواسطتها قطعة الورق إلى حمامة أو أرنب.
حديث الكساء يبدو أشبه بحلم فرويدي. هذيان، ورموز حسية، ولا شعور، ومكبوتات متراكبة.
في تفسير فرويد للأحلام كان يرى أن رموزا مثل الفراش ورداء الرجل ذات إيحاءات حسية. لكنها رغم حسينها لها دلالات اجتماعية.
تتعاظم الدلالات الحسية عندما ترى بعض الروايات الشيعية أن الرداء كان رداء فاطمه وأنهم جميعا دخلوا تحت الرداء وعلي من خلفه.
لست متخصصا في تفسير الأحلام الفرويدي، لكن حديث الكساء مجال خصب لهكذا تفسير.
اجتماعيا وتاريخيا، تبدو فكرة آل البيت في الاسلام اكبر عملية تزوير أنساب في التاربخ. لكن هذا النسب الملفق لم يكن كافيا لحصر السلطة والثروة في يد العائلة المقدسة.
وكان لابد من اختراع جهاز مفاهيمي ضخم لاسناد الخرافة الهشة. الوصية، العصمة، العترة، الولاية، التطهير، البطنين، الولاية التكوينية، الولاية التشريعية ، أعلام الهدى.. أوسع قاموس للعنصرية والخرافة والتزوير شهده أي دين من الأديان.
المثير للاهتمام في نص كوميدي مثل حديث الكساء ان تنويريين مثل ابراهيم عيسى وعدنان ابراهيم يؤمنان به ويدافعان عنه إلى جانب تنويريين وتقدميين آخرين من انصار تفكيك خرافات الاسلام الصغرى والدفاع عن الخرافة الكبرى القاتلة.
ومن يعيش تحت نار الخرافة اليوم في اليمن والعراق ولبنان وإيران ليس مثل كمن يتفرج عليها من بعيد.